المساء
محمد جبريل
بين الأدب والجمباز !
حين قررت حسم الأمر. واختيار إحدي الهوايتين: كتابة القصة. أو لعبة الجمباز. كنا - أخوتي وأنا - نحيا الذكري الخامسة لوفاة أمي.. فقد ماتت قبل أن أبلغ العاشرة.
مع ذلك. فإن جزئيات يوم الرحيل ظلت محفورة في ذاكرتي. نسيت معظم الأيام التي قبله. ومعظم الأيام التي بعده.. لكن أحداث ذلك اليوم الغريب. ظلت قريبة. كأنها جرت أمس.
كانت أمي قد أدركت دنو أجلها. فأوصتنا بأنفسنا. وببعضنا البعض. واعتذرت لأبي عن مرضها الذي طال.. ثم استغاثت بنا من شيء لم نتبينه. وماتت.
لم أكن أدري: ما الموت. لكن الهمسات التي كان يتبادلها أبي وبعض أقاربي خارج حجرة أمي. دفعتني إلي الوقوف علي باب الحجرة. أتأمل. وأحاول الفهم.
كنت قد تعرفت إلي الأدب في مكتبة أبي. وحاولت أن أكتب بعض المحاولات المقلدة. أصل ما أكتبه بجمل وتعبيرات قرأتها لأدباء عرب وأجانب. أنقل الجملة التي تعجبني في كشكول. أعود إليه لأختار التعبيرات المناسبة. أحاول تضفيرها بما أكتبه. وتعويض ما تحمله كلماتي من سذاجة مؤكدة. وحين عرضت محاولاتي علي أبي. أعادها لي. مشفوعة بابتسامة يصعب أن أصفها لك: هذه قصة لي. دون ان تغادر الابتسامة - التي يصعب أن أصفها لك - وجهه: أنت ابني.. وأنا أعرف قدراتك!
ومع أن ما كنت أقدم عليه لم يجاوز "الاستعارة" التي تختلف - بالتأكيد - عن نقل المسطرة. والسطو الصريح الذي يعانيه أدباء هذه الأيام من نشالي الأدب. والذين ينطبق عليهم حد الحرابة.. فإن الإحباط دفعني إلي التفكير في الأمر: أي الطريقين يجدر بي أن أمضي فيه إلي نهايته. كنت موزعاً بين القراءة في مكتبة أبي ومحاولات الإبداع. وبين التردد علي ناد رياضي في شارع الكنيسة المرقسية بالإسكندرية. أمارس لعبة الجمباز. يساعدني علي أداء حركاتها جسم نحيل رشيق. لا صلة له بانضمامي - فيما بعد - إلي حزب الجميز!
أقول: حين قررت حسم الأمر. كانت ذكري أمي قد تملكتني تماماً. فقررت أن أكتب إليها رسالة. وأصبحت - من يومها - أديباً. وخسر الجمباز ناشئاً مجدداً. ربما استطاع ان يحرز لمصر بطولات! المهم. كتبت الرسالة. وكانت - في الحقيقة - شيئاً مؤثراً. توليفة طيبة من المنفلوطي وطه حسين والحكيم وعبدالحليم عبدالله ومحفوظ وعمر عبدالعزيز أمين ودروس الإنشاء!.. وقررت - لإعجابي بها - أن أنشرها. وذهبت بمخطوطي إلي مطبعة الشباب في ميدان السيدة زينب. وسألت عن قيمة طباعة خمسمائة نسخة. وتعمد الرجل ان يرفع السعر. فقال بلهجة متحدية: جنيه. وافقت دون فصال. واستلمت - بعد أقل من أسبوع - أول إنتاجي المطبوع: ملزمة كاملة بعنوان "الملاك".. وأمي - بالطبع - هي المقصودة بالتسمية.
حملت النسخ. في ربطة واحدة. إلي بيت عمتي بالمنيرة. وبدأت في بيع النسخ - بالمجهود الذاتي - علي الأهل والأصدقاء والجيران.. النسخة بقرشين!. تبينت - بعد شهر كامل - أن كمية النسخ المباعة جاوزت المائة.. فحملت بقية النسخ إلي مكتبة المنيرة التابعة لدار الكتب. ورجوت من المشرف ان يسمح لي بإهدائها إلي دار الكتب وفروعها بالقاهرة والأقاليم.. فوافق ضاحكاً - أعترف بأني لم ادرك مغزي الضحكة. إلا عندما بحثت - ذات يوم - عن كتابي الأول في قوائم دار الكتب. فلم أجده! - وأعطاني الرجل إيصالاً بالاستلام علي ورقة كراسة.
خرجت من المبني. وفي النفس رؤي وأحلام وتصورات. كنت قد أمسكت بخيط المجد في يدي. أزمعت ألا أفلته.

تعليقات
اقرأ ايضا
الصحف