د/ شوقى علام
الخلل فى تناول قضية المفاهيم
من المقرر لدى أهل الفقه والفكر أن الأمم تتراجع عندما تتساهل في مفاهيمها خاصة التي تشكل هويتها ومكونات شخصية أفرادها، لأن الحرب على المفاهيم تمثل أهم محور من محاور الصراع الثقافي والفكري بين الأمم عبر العصور، فهي تعكس الذاكرة المعرفية لأي أمة من خلال الكشف عن كوامن هويتها وسمات أفكارها ونظرياتها وفلسفتها وتراكمات خبراتها وتوالي تجاربها الحضارية.
والمفاهيم جمع مفهوم، ويقصد به التعبير عن الشيء باللفظ الذي يدل عليه دلالة تصلح لتصور معناه، من خلال ذكر جملة من خصائص هذا الشيء وسماته وتحديد معالمه، حتى يُمَيَّز عن غيره ولا يختلط بآخر. وتُعَدُّ المفاهيم قواعد البناء الجامع التي تؤسس عليها سائر الحقول والعمليات المعرفية، وهي الوسيلة الأصيلة لأساليب الخطاب والتواصل، ومن ثَمَّ كان الإنسان مفضَّلا بما أودعه الله تعالى من خاصية التعبير عما بداخله بقوة النطق ومعرفته بخصائص اللغة وآدابها وأساليبها المتنوعة والتي يراعي فيها المسميات ومحاولة إيصال ما في ذهنه إلى ذهن غيره.
ولا ريب أن وضع الأسماء للمسميات وتحديد معاني تلك الأسماء وتعريفها نعمة كبرى للمولى الحكيم على الإنسان، يقول تعالى: (خَلَقَ الْإِنْسَانَ.عَلَّمَهُ الْبَيَانَ)[الرحمن: 3-4]، كما أنها أيضًا سمة أصيلة في جنسه منذ آدم عليه السلام، وعن ذلك يقول الله تعالى: (وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا)[البقرة: 31]، وكلمة «علَّم» مجملة محتملة لكيفيات كثيرة، كما في مباحث علم أصول الفقه وعلم الوضع عند المسلمين.
من أجل ذلك، خصص علماء كل فن مباحث في كتبهم لتحدد المفاهيم وتعالج المصطلحات قبل أن يطرقوا الموضوعات، ولا يخفى أن تسيير ذلك وفق منهجية منضبطة درسًا ومدارسةً وتعليمًا وممارسةً عبر الأجيال والعصور يعصم العقائد والأفكار والأحكام والعمل وهوية الأمة أفرادًا وجماعات، حيث غالبًا ما يشوب هذه المجالات التخبط أو يخالطها الفوضى، وتلك المفاهيم مؤشرات تُظهر مدى وجود الوعي المنهجي وعمقه لدى الأمم في كل عصر، انطلاقا من التحري الشديد لتفادي مظاهر اختلال المفاهيم وارتباك المصطلحات لديها، وابتعادًا عن منهج الانتقاء والتحيز، الذي هو سبب استفحال التحديات وتفاقم الأزمات.
وأغلب التحديات والأزمات المعاصرة ناتج عن آفات التلاعب بالمفاهيم اختلالا واختزالا، حيث يعمد أهل التطرف ودعاة الانحلال للمفاهيم الْمُشْكِلة لعقل الأمة وهويتها بالتشويه من أجل زيادة مساحة الانحرافات الفكرية وبسط مظاهر التسطيح والضعف لدى العامة حتى تصبح ذاكرة الأمة المعرفية فارغة المعنى فاقدة المضمون.
وهي مناهج ماكرة ومحاولات خبيثة عانت منها الأمة حسًّا ومعنًى ولا تزال تعاني، لذا حذَّر الإسلام منها ومن أصحابها في مواضع كثيرة، فقد لفت القرآن الكريم نظر المسلمين إلى الحذر من استعمال لفظ محتمل يتضمن عدة دلالات بعضها يحمل الإساءة لشخص الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم والطعن في الدين، وفي الكشف عن ذلك يقول الله تعالى: (مِنَ الَّذِينَ هَادُوا يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ وَيَقُولُونَ سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا وَاسْمَعْ غَيْرَ مُسْمَعٍ وَرَاعِنَا لَيًّا بِأَلْسِنَتِهِمْ وَطَعْنًا فِي الدِّينِ)[النساء: 46]، بل أوجب عليهم استعمال آخر لا يحتمل إلا العرفان بقدره ومقداره العظيم، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقُولُوا رَاعِنَا وَقُولُوا انْظُرْنَا وَاسْمَعُوا)[البقرة: 104].
إن التلاعب بقضية المفاهيم، وسيلة سهلة لانتشار الأعمال الوحشية، ولافتة يندرج تحتها إراقة الدماء وانتهاك الحرمات وعرقلة مسيرة الأمة نحو التنمية والتقدم دون التزام بمقررات الأديان والأعراف وضروريات العقول، أو خوف من محاسبة وجزاء، أو مراعاة للقيم والأخلاق، أو احترام للمواثيق والعهود.. نعم، إن كثيرًا من هذه المفاهيم التي أصابها الخلل في عصرنا الحاضر - رغم نصوع معانيها وجلاء حقائقها - كانت هي السائدة لدى الأمة وجرى عليها العمل سلفًا وخلفا مع مراعاة التطور الذي يلحقها وفق مقررات المناهج لا الأحكام والمسائل، فكانت منشأ الرحمة والرخاء ومصدر الاستقرار والتنمية والحضارة والعمران، وتلك حقيقة كتبها الدهر بمداد من نور.