** ليس بالفقر وحده تنهار الأمم.. فقد اعتاد المصريون علي الحياة في أصعب الظروف.. ولكن عندما يتعلق الأمر بالنهر الخالد فإن حياة المصريين تصبح علي المحك.. ومخطئ من يظن انني سأخوض في موضوع سد النهضة.. فلو نطق نهر النيل لطمأن المصريين علي حاضرهم ومستقبلهم فيما يتعلق بالأمن المائي.. ولكنه سيشكو تلك الانتهاكات الصارخة التي تشوهه وتحوله من شريان لحياة المصريين إلي مستنقع يهدد حياتهم.. فكم أزعجني ذلك التحقيق الصحفي المنشور بإحدي الجرائد الخاصة تحت عنوان "شريان الموت" نهر النيل سابقاً.. فالعنوان صادم للغاية.. لكن المحتوي الموثق بالمستندات وآراء الخبراء يثير الذعر في النفوس.. فقد استند التحقيق إلي أحداث الدراسات الصادرة عن مجلس الوزراء. إضافة إلي عدد الضحايا من الأطفال المصريين الذين يموتون سنوياً ومثلهم بالآلاف من المصابين بالفشل الكلوي وسرطان المثانة بسبب تلوث مياه النيل.. فقد أشار التحقيق إلي خسائر مصر الاقتصادية نتيجة تلوث النيل والمقدرة بنحو ثلاثة مليارات جنيه سنوياً منها نحو ثمانمائة جنيه تنفقها وزارة الصحة لشراء أمصال مضادة للأمراض المعوية الناتجة عن تلوث المياه.. ولم يكتف التحقيق بتحديد الأماكن الأكثر تلوثاً في النيل وفي مقدمتها مصانع كيما في أسوان التي تلقي مخلفاتها السائلة في النيل تليها مصانع السكر في محافظة قنا ثم مصانع الصابون وكذا مصانع البصل بمحافظة سوهاج التي تلقي بمخلفاتها في النيل مباشرة.. أما الكارثة غير المسبوقة في تاريخ التلوث والأمراض البيئية المزمنة فتوجد في محافظة أسيوط.. حيث تؤدي مصانع أسمدة السوبر والفوسفات والأسمنت مهمتها بنجاح عظيم في تلويث النيل.
** وكما ذكرت فلم يكتف المحقق "حماد الرمحي" بتحديد المناطق الأكثر تلوثاً في المجري المائي العظيم.. بل حدد المصارف الثلاثة الأكثر خطورة علي حياة المصريين المتمثلة في مصارف كوتشنر والمحيط والرهاوي ولجأ إلي الخبراء للوقوف علي الحل الأمثل لحماية أحد أنهار الجنة كما ورد في الحديث الشريف. فقد قال صلي الله عليه وسلم في الحديث الشريف: "سيحان وجيحان والفرات والنيل كل من أنهار الجنة".. جدير بالذكر أن سيحان وجيحان نهران تركيان يصبان في البحر المتوسط.
وقد أشار الدكتور نادر نور الدين أستاذ الموارد المائية وخبير المياه الدولي في مناشدته لإنقاذ نهر النيل علي وجه السرعة إلي سبل الإنقاذ المتمثلة في إقامة محطات معالجة ثلاثية قبل ضخ مياه الصرف الصحي أو الزراعي في المصارف المذكورة.. إضافة إلي إقامة محطات للمعالجة المتقدمة خاصة بمياه الشرب التي يترتب علي تلوثها وفاة آلاف المصريين سنوياً.. وحتي يتخيل المصريون حجم الأزمة دعونا نتعرف علي الوزارات المعنية بالنهر الخالد وعددها ثماني وزارات بينها وزارة سيادية.. تأتي وزارة الزراعة في مقدمتها ويتبعها الجزر النيلية والثروة السمكية ثم وزارة الري ويتبعها الترع والمصارف وتوزيع حصص المياه ثم وزارة الإسكان المسئولة عن محطات مياه الشرب المنتشرة بطول النيل ثم وزارة النقل المسئولة عن قطاع النقل النهري. أما الوزارة الخامسة فهي وزارة الداخلية المسئولة عن شرطة المسطحات المائية. ثم وزارة الصحة المسئولة عن صحة وسلامة عينات المياه للتأكد من صلاحيتها للشرب تليها وزارتا البيئة والتنمية المحلية المنوط بهما مسئولية المنشآت المحيطة بطول نهر النيل من محلات وكازينوهات وغيرها.. وواقع الحال أن هذه الوزارات مجتمعة لم تنجح في إنقاذ الشريان الحيوي للمصريين.. ولو كان النيل يخضع لوزارة واحدة لأمكن السيطرة علي مسببات التلوث.. فالنيل يحتاج بحق إلي وزارة واسعة الصلاحيات تضاف إلي الوزارات السيادية.
** آخر الكلام:
صدق أو لا تصدق.. أن الظروف المعيشية الصعبة بل شديدة الصعوبة تقوي من عزيمة المصريين وتؤدي إلي تقوية أجهزة المناعة في أجسامهم. فتجدهم أصحاء أقوياء ينحتون في الصخر لبلوغ الأهداف المرجوة وتحقيق الطموحات المشروعة. ولعل السر في قدرة المصريين علي مواجهة التحديات شديدة الصعوبة يكمن في "الضمير". فقد حباهم الله بنعمة الضمير وما أدراك ما نعمة الضمير.. فالضمير غالباً ما ينتصر لقيم الحق والعدالة والحرية. وقبل الزمان بزمان وتحديداً في القرن التاسع عشر خرج علينا الأديب الفرنسي العبقري فيكتور هوجو "1802- 1885م" بمقولة تفوق الخيال قائلاً: الضمير هو أحد الطرق التي يقدم بها الله نفسه للإنسان" فإذا وضعنا مقولة هوجو إلي جانب الحكمة الأوروبية أو لنقل الأجنبية القائلة إن الضمير لا يمنعك من ارتكاب الخطأ. لكنه يمنعك من الاستمتاع به.. لأدركنا أهمية العقيدة في حياة الإنسان.