المصريون
أ.د. إبراهيم أبو محمد
الأزهـر .. وإعلام الأنابيب
حين يتولى صياغة الرأي العام وتكوين الوجدان الشعبي في مجموع الأمة نفر ممن لا يجيدون غير الزعيق والهتاف والتطبيل الممقوت، فإن مصير الأمة يصبح في خطر.


هذا الخطر يستدعى إلى الذاكرة بيت بشار بن برد وقد كان كفيف البصر فسأله رجل عن دار رجل آخر فدله عليها ووصف له كيف يذهب إليها، فأصر الرجل أن يأخذه بشار بنفسه ويقوده إلى هدفه، فأكد له بشار أنه رجل أعمى لا يرى، فقال الرجل: لكنك سليم القدمين ولا تمشى على عينك، فلا بأس أن تقودني، فقاده بشار وهو يردد بيته المشهور:


أعمى يقود بصيرا لا أبا لكم .....لقد ضل من كانت العميان تهديه.


البيت الشعري السابق يعكس حالة الفوضى الفكرية والثقافية حين تعيشها مجتمعات تسلط فيها عميان البصيرة على عقول الناس، فأضحوا كأنهم عقاب يومي تجلد مشاعر المشاهدين برؤيتهم لهذه الكائنات القبيحة.


فإذا أضفت الجهل والخبث والغدر والخيانة، وهي أمراض تنتشر في المجتمعات التي تتخلى أنظمتها عن القيم السيادية فيها، وتفرط في مبادئ الرشد السياسي الذي يحمي الحريات والحرمات والحقوق، ولا يولي اعتبارا لثوابت الأمة، ولا يعرف لعلمائها أقدارهم ومكانتهم، ولا يحاول الاستفادة الجادة من وجودهم، إلا فيما يدعم سلطانه ويبسط نفوذه ويوسع دوائر تغوله، فإن مؤشر الخطورة يرتفع من درجة "خطير" إلى "الأكثر خطورة".
وحين يترك ولاة الأمور الحبل على الغارب لبعض الفئات المملوءة حقدا وكراهية، والمترعة بالجهل والفقر الثقافي في كل شيء، وضد كل شيء، وحتى ضد ذاتها وكينونتها، تكبر الفاجعة ويعظم الخطب وبخاصة حين يتولى هؤلاء الحمقى منابر التوجيه وصياغة الرأي العام، حينئذ توشك هذه الأمراض أن تكون سببا في هلاك الشعوب وانهيار الأمم.
وبعد الحادث الإرهابي الذى طال تفجير الكنيستين في طنطا والإسكندرية وأدمي قلوب المصريين جميعا ، حرص المشاهد أن يحرك "الريموت كنترول" لينتقل من قناة لأخرى ومن برنامج لآخر ليعرف خلفيات الخبر المفجع من موقع الجريمة وفي بلد الحدث ، غير أن المفاجأة المذهلة أن العقلية التي تدير تلك الأذرع الإعلامية وتعطيها التوجيهات وخريطة الهدف لا زالت تظن بأن استمرار كتيبة الكذب وفرضها على الشاشة يعني السيطرة على الرأي العام والقدرة على تشكيله والتأثير فيه، وقد ظهرمن خلال المتابعة لبرامج "التوك شو" التي تبثها الفضائيات المصرية أن نفس الكلام وفي ذات القضية يتكرر في كل القنوات تقريبا ، وبنفس الألفاظ والمفردات، وتكرار ذات الجمل وحتى حالة التوتر والزعيق المزعج المثير للسخرية المصاحبة لكل منهم ساعة الأداء.
ذلك كله يدلك على وحدة المصدر في التوجيه والإملاء ، ومن ثم يدرك المشاهد بفطرته أن هذا ليس إعلاما وإنما هو نوع من التطبيل المهين، وأن هؤلاء ليسوا أعلاميين بالمعنى العلمي الدقيق ، وإنما هم مجرد كومبارس مخلق ليس في معامل أكاديمية ومهنية محترمة وإنما في أنابيب البدروم وتحت سلم الدكتاتوريات والاستبداد والقهر ، وأن من يملى عليهم هذه المنشورات الهابطة ينطلق في التعامل مع الجماهير من موقع المهزوم والمأزوم ، وأن ثقافة النكسة تسيطر عليهحتى النخاع ، وهو يحاول ـ في بؤس ـ التسترعلى هزيمته وفشله بإخفاء الحقيقة ، والاستمرار في خداع الناس،فيلفق التهمة في أي جريمة لأول من يقابله ، وكان حظه التعيس أنه لم يجد في جعبته غير الأزهر ليحمله - شيخا ومناهج وعلماء - مسؤولية ما حدث في الكنيستين.
كتيبة الكذب التي تم اختيارها لهذه المهمة ظهرت مفضوحة من بدايتها وحتى جاءها الأمر بالسكوت والخرص، ولم تكن مفضوحة فقط لكذبها، وإنما لأنها محدودة الذكاء وسيئة الأداء، ومن ثم فكذبها مفضوح ولا يتم باحتراف وحرفنة ، وقد جاء الاتهام للأزهر ساقطا وباطلا ، ومهمة التلفيق بدأت بالفشل مسبقا وماتت قبل أن تولد.
صاحبهم الجالس في المكتب الكبير يبدو أنه لا يدرك أن الدنيا تعيش في عصر التوثيق التكنولوجي والسماوات المفتوحة, حيث محرك البحث " جوجل " في جهاز بسيط يستطيع أن يقوم بما كان يقوم به أكثر الأجهزة تعقيدا في أكبر أجهزة الاستخبارات في العالم, وهو جهاز كشف الكذب, ومن ثم ففضائيات النظام كلها - ولو بلغ عددها مثل سكان مصر- مالم تلتزم بالموضوعية والمهنية والمصداقية فستتحول في نظر المشاهدين إلى مجرد مصانع للخداع والكذب , تستعملها الأنظمة الأكثر تخلفا في العالم حين تظن أنها بهذا الأسلوب تصبح صاحبة السيادة والسيطرة على عقول الناس ، بينما ينظر الناس إليها باحتقار واستخفاف ،لأنها في نظرهم أداة النظام في الخداع والكذب ومن ثم فلا تحظى بأي قدر من المصداقية والاحترام ، ولا ندرى من هو العبقري النطاسي الذى سول للنظام أن يختار هؤلاء؟ أم إن هذا من توفيق الله في الخذلان كما يقولون؟
في الجانب الآخر وعلى مستوى الكتابات وضيوف سهرات الليل في الفضائياتكان من الواضح أن مصر وبعض مجتمعاتنا المسلمة منذ الخمسينات أصيبت بإعلام المانيفستو من غلمان الماركسية وموالي بني علمان الذين تعودوا منذ فترة أن يعبثوا في العقل المسلم، وأن يثيروا حول الإسلام غبارا يحجب الرؤية أحيانا, وأحيانا يزكم الأنوف, ساعدتهم الحظيرةالثقافية على هذا العبث، فالتقى الأدعياء كل وهواه ، فكانت ظاهرة التطاول على ثوابت الإسلام والتشكيك في مصادره ومحاولات النيل من حصونه، وفي مقدمتها الأزهر ومناهجه الدراسية ، وشيخه ورموز علمائه.
وفي مجالس شيوخه وبين أيديهم تفتحت عيون علماء العالم الإسلامي على فهم كتاب الله، ومن أروقته وعلمائه وشيوخه أدرك العالم قيمة منهج الإسلام رسالة ورسولا، وفيه تعرف أبناء الأمة على تاريخ أمتهم وحضارتها ورجالها وأبطالها ومن صنعوا لها المجد.
ومن علوم الأزهر أخذت المعايير الحقيقية التي يقيسون بها نبض الحياة ويعرفون بها مقياس الصواب والخطأ، ليس فقط على مستوى السلوك الفردي في الحلال والحرام، وما يجوز وما لا يجوز، وإنما معيار الصواب والخطأ الحضاري والثقافي للأمم والشعوب والمجتمعات الإنسانية.
والأزهر منذ نشأته يمثل الفكر الإسلامي الأصيل، والصحيح الذي ينفي عن الإسلام تحريف الغالين، وانتحال المبطلين، وتأويل الجاهلين.
والأزهر بعلمائه وشيوخه هو المأمون على دين الله عقيدة ولغة وثقافة، ومن ثم فلا يمكن لجهة أو هيئة في أي مكان في العالم تستهدف التأصيل العلمي وتبحث عن صحة الرواية وسلامة التوثيق إلا ويكون لها علاقة وثيقة بالأزهر الشريف جامعا وجامعة، هذا فضلا عما يقوم به الأزهر الشريف من ممارسة لدوره ورسالته العلمية في التوجيه والإرشاد وزيادة الوعي ومحاربة التطرف ونشر الإسلام الصحيح لدى أبناء الجاليات الإسلامية، في كل دول العالم شرقا وغربا وشمالا وجنوبا ، ومن ثم فالأزهر له فضل السبق في عبور القارات وتخطي الحدود زمنا ومكانا برجاله وأبنائه وخريجيه من سفراء الدعوة .
والأزهر بجانب كونه قلعة تحطمت عليها كل موجات الغرور الشريرة التي أرادت النيل من مصر تاريخا وعقيدة واستقلالا، هو أيضا الحارس على سلامة وصحة فكر الإسلام الصحيح، وهو حائط الصد ضد طوفان الغلو والتطرف، والتعصب الأعمى والإرهاب المجنون. فكيف تسمح الدولة أو النظام الحاكم لفئة إعلامية ضالة وجاهلة أن تنتهك حرماته وتتهمه بالمسؤولية عن الإرهاب الذي يحاربه الأزهر، وتحمله مسؤولية تقصير وإهمال أنظمة فاشلة على كل المستويات السياسية والاقتصادية والأمنية.
ولئن كان الأزهر قد بني في مصر واتخذ من أرض الكنانة مستقرا ومستودعا، إلا أن مكانته ورسالته تعدت حدود الجغرافيا لتصل إلى أعماق آسيا وإفريقيا وأوروبا وأستراليا والأمريكتين، وتشكل في تلك المساحات الجغرافية عن طريق الأخلاف بعثا جديدا لنشاط الأسلاف، كما تسطر تاريخا جديدا في الدعوة على بصيرة، تعيي مشكلات الواقع، وتستوعب تحدياته، وتعرف كيف تبني الجسور والعلاقات بحكمة واقتدار، كما تعرف كيف تعرض قضاياها بذكاء وأدب. وهذا كله مكسب يضاف إلى رصيد مصر الأزهر ويسبق في حضوره وتأثيره كل بعثات وزارات الخارجية منذ عرف الناس مصطلح الدبلوماسية.
الحمقى ومعهم "أهل الهوى يا ليل” يتصورون ـ خطأ وغباءـ أن الأزهر وعلماءه حين ينأون بأنفسهم عن الدخول في جدل عقيم مع السفهاءوالحمقى أنهم عاجزون عن الرد ، لا ...هم قادرون على الرد الرادع ، غيرأن مقامهم العلمي لا يسمح بالتدنى والسقوط ، ومن ثم فهم يترفعون خلقا وعفة وسموا وهم يرددون :
سمونا للسماء فنازعـتنا .........هواتـفنا إلى الأفـق البعيد


ومن عشق السماء فلا تلمه ......إذا كره النزول إلى الحضيض



المفتي العام للقارة الأسترالية
تعليقات
اقرأ ايضا
الصحف