الأهرام
نيفين مسعد
الانفجار الانتخابى الكبير
عنوان المقال مأخوذ من أحد عناوين الصحف الفرنسية تعليقا على نتائج الجولة الأولى من الانتخابات الرئاسية، والمقصود بالانفجار استبعاد الحزبين الرئيسيين اللذين حكما الحياة الفرنسية منذ الجمهورية الخامسة وإخراجهما من المنافسة فى الجولة الانتخابية الثانية. لم تكن هزيمة الحزب الاشتراكى خافية على أحد، فلقد كان أداء الرئيس الاشتراكى فرانسوا هولاند محبطا سواء على الصعيد الاقتصادى أو على الصعيد الأمني، لكن ما لم يكن متصورا هو أن يُمنى مرشح حزبه بونوا هامون بهذه الهزيمة الفادحة فلا يحصد أكثر من 36و6 بالمائة من أصوات الناخبين. أما بالنسبة للجمهوريين فلقد كان الأمر مختلفا بعض الشيء، فمع أن مرشحهم فرانسوا فيون كانت تطارده تهم الفساد المالى مما أضعف مصداقيته بشدة، إلا أنه كان هناك من يتصور أن تدهور شعبية الاشتراكيين سوف تصب فى مصلحة اليمين المحافظ وأن التقدم الذى أحرزه اليمين فى انتخابات المحليات منذ عام 2012 يعد رصيدا لكل هذا الاتجاه وليس للجناح المتطرف منه بالأساس الذى تمثله مارين لوبان، وهو رهان اتضح أنه غير دقيق، ومع ذلك فإن اليمين المحافظ خسر فى الجولة الأولى بشرف مقارنة بالاشتراكيين فلقد حل الجمهوريون فى المرتبة الثالثة بعد لوبان وبفارق بسيط عنها.

الحديث عن اليمين واليسار فى السياسة الفرنسية ينبغى أن يؤخذ بحذر بالنظر إلى التقاطعات المختلفة بين الأحزاب والحركات المنتمية لهذين التيارين الكبيرين، فحركة فرنسا الأبية التى يتزعمها جون لوك ميلانشون والتى تمثل أقصى اليسار تشترك مع الجبهة الوطنية التى تترأسها مارين لوبان والتى تمثل أقصى اليمين فى معاداة كليهما العولمة وبالتالى فى الدعوة للانسحاب من حلف الأطلسى ومن الاتحاد الأوروبي، صحيح أن لوبان تنطلق فى دعوتها من رفض الآخر ومما تسميه «الأفضلية الوطنية» بينما يركز ميلانشون على استقلال الإرادة الفرنسية لكن فى الحالتين فإن الهدف واحد. ومن جهة أخرى فإن سياسة التقشف التى تبناها اليمين المحافظ أو يمين الوسط الذى مثله فرانسوا فيون كان الأولى باليمين المتطرف أن يتبناها، لكن على العكس فإن لوبان تبنت قضية الفقراء و تكلمت باسم حقوق العمال والموظفين الذين يدافعون عن وظائفهم وعن قدرتهم الشرائية، بينما راح فيون يتحدث عن تقليص الوظائف والمساعدات الحكومية للقطاع الصحى ويؤيد زيادة قيمة الضريبة المُضافة ومد ساعات العمل ،ولذلك كان طبيعيا أن تتركز شعبية لوبان اجتماعيا بين أبناء الطبقة الدنيا وهم ليسوا الناخبين التقليديين لليمين لكنهم استساغوا واستسهلوا ربط لوبان بين انتشار البطالة وبين ظاهرة الهجرة . هنا نفتح قوسين لنقول إن آباء هؤلاء المهاجرين هم من أداروا عجلة الإنتاج فيما كان الفرنسيون فى غمار الحرب العالمية الثانية، وأنهم من قاموا بإعمار فرنسا بعد انتهاء الحرب. كما يجدر بِنَا أن نشير إلى أن ما تسميه لوبان بالوطنية يصفه چون ميشال ماكرون - مؤسس حركة إلى الأمام الناطقة باسم يسار الوسط وصاحب أعلى الأصوات فى الجولة الأولي- بالقومية، فوفقا لماكرون يوجد فارق بين الوطنية patriotisme التى يتبناها وتعنى الاعتزاز بالانتماء لفرنسا وبين القومية nationalisme التى تدعو لها لوبان وتعنى التعصب الشديد فى هذا الانتماء، ومثل هذا التمييز يبدو غريبا لأنه يتعامل بنظرة بالغة السلبية مع القومية إلى حد قد يجعلها ترادف الشوفينية فى حين أن الاتحاد الأوروبى الذى يدافع عنه ماكرون لا يعدو كونه تعبيرا عن القومية الأوروبية.

تميزت الجولة الانتخابية الأولى بارتفاع نسبة المشاركة التى بلغت 77,77 فى المائة من إجمالى عدد المسجلين فى الكشوف الانتخابية، أما الجولة الثانية فثمة تكهنات باحتمالات مقاطعتها من نسبة لا بأس بها من الناخبين لنصير بذلك أمام السيناريو العكسى لسيناريو انتخابات عام 2002 عندما تدنت نسبة المشاركة فى الجولة الأولى إلى نحو 58 فى المائة، حتى إذا انحصرت المنافسة فى چاك شيراك وچون مارى لوبان زاد الإقبال فى الجولة الثانية لقطع الطريق على اليمين المتطرف. مبدئيا فور ظهور نتائج الجولة الأولى لانتخابات 2017 قام عدد كبير من أنصار ميلانشون بتدشين حملة لمقاطعة الجولة الثانية المزمعة فى 7 مايو المقبل من خلال إطلاق حملة «بدونى أى بدون صوتى فى 7 مايو». هنا نذكر أنه حتى تاريخ كتابة هذا المقال لم يدع ميلانشون أنصاره للتصويت لأى من المرشحين ماكرون ولوبان وهو بصدد التداول معهم فى الأمر عبر الفضاء الإلكتروني، ويختلف ذلك عن سلوك كل من فيون وهامون اللذين بادرا من فورهما بدعوة ناخبيهما للتصويت لماكرون. بطبيعة الحال لا يوجد هناك ما يلزم الناخبين بتوجيه أصواتهم إلى الوجهة التى أشار بها عليهم مرشحهم الخاسر، لكن فى حساب الأصوات المُحتملة لمرشحى الجولة الثانية لابد من أخذ هذه التوجيهات بعين الاعتبار. عموما فإن قضية المشاركة من عدمها تعد قضية الساعة فى الساحة السياسية الفرنسية، فعلى حين يرى البعض أنه ليس مضطرا للاختيار بين «الفاشية المالية والفاشية الوطنية»، فإن هناك من يدافع عن قيمة التصويت الانتخابى باعتباره حقا من حقوق المواطنة وتعبيرا عن الديمقراطية التى تعتز بها فرنسا.

لن تكون الجولة الانتخابية الثانية جولة سهلة، فالاصطفاف الذى تحقق ضد لوبان الأب غير مؤكد ضد ابنته بعد أن تعلمت الدرس فتجنبت الخطاب العنصرى الذى يتحدث عن العرق الفرنسى واحتفظت بمضمونه من خلال معاداتها للمهاجرين عموما والمسلمين منهم على وجه الخصوص. وبعض من صوتوا لليسار يفكرون فى إعطاء أصواتهم للوبان فموقفها أكثر وضوحا فى رأيهم كما أن انحيازها للمهمّشين لا لَبْس فيه، أما ماكرون فى رأيهم فإنه يمسك العصا من المنتصف وهو بحكم انتمائه لوسط رجال الأعمال يتماهى أكثر مع أبناء الطبقة الوسطى . وعلى الجانب الآخر فقد رأينا أن من أنصار اليمين من يدعم ماكرون بكل قوة لأنه يرى فى فوز لوبان كارثة محققة تجفف الثقافة الفرنسية باسم الدفاع عن قيمها ضد المهاجرين، كما أن ماكرون مدعوم أوروبيا، وثمة تنسيق وثيق بينه وبين المستشارة الألمانية إنجيلا ميركل التى تعلم جيدا أن خروج فرنسا من الاتحاد الأوروبى يعنى النهاية الفعلية لهذا الاتحاد، ففرنسا ليست بريطانيا وهى التى قادت مع ألمانيا القاطرة الأوروبية، من هنا يعتبر البعض أن التصويت فى الجولة الرئاسية الثانية هو فى واقع الأمر تصويت على مستقبل الاتحاد.

سوف يحبس الفرنسيون والأوروبيون أنفاسهم فى انتظار السابع من مايو المقبل، ولا أَجِد أبلغ وصف لحال الارتباك التى يعانيها الناخب الفرنسى بفعل خلط أوراق المرشحين وخطاباتهم من نكتة منقولة عن أحد الزملاء وفيها أشار تان تان للكابتن هادوك بالتوجه يسارا فمشى الكابتن صوب ما يظن أنه يسار وهو يسار كاذب فكان أن ارتطم بإحدى الأشجار.. والمعنى واضح!
تعليقات
اقرأ ايضا
الصحف