المصرى اليوم
جيهان فوزى
«الأسرى» نسق حياة
تلتهم جدران السجون قوتهم، لكنها أبدًا لم تستطع كسر إرادتهم، طوّق الاحتلال بسياج القمع حياة الفلسطينيين منذ نشأة دولته العنصرية الغاصبة وحوّل حياتهم إلى سجن كبير يتنقل معتقلوه بين حناياه دون شكوى أو كلل، لأنهم يؤمنون بأنهم على حق، وطريق النضال طويل وشاق والثمن مدفوع مسبقًا، شهيد تلو شهيد، أجساد تتساقط دون تردد فداءً لكرامة أهدرها الاحتلال وتضحية بالنفس لاستعادتها وإن كانوا أمواتًا عند ربهم يرزقون، مقاومتهم للمحتل مشروعة وصدهم لقمعه أبسط قواعد الكفاح والتحدى والصمود، الأسرى أصبحوا أيقونة حياة الفلسطينيين ومعلمًا أساسيًا من معالم القضية الفلسطينية وعنوانًا بارزًا في مسيرة كفاح الشعب الفلسطينى، للأسير منزلة كبيرة في وجدان شعبه لما يمثله من قيمة معنوية ونضالية، فغدًا نموذج يُحتذَى في الصمود والبطولة ومقاومة المحتل.

بينما إسرائيل دولة الاحتلال فتعتبرهم مجرد أفراد إرهابيين لا تولي لهم انتباهًا ولا تسعى لإعادة تأهيلهم، بل تعتبر سجنها لهم انتقامًا يستحقونه، ولا ترى فيهم سوى مخربين لا يستحقون الحياة، لذا لم يكن مستغربًا أن نرى دولة الاحتلال تشدد إجراءاتها القمعية بحقهم وتحرمهم من أبسط حقوقهم الإنسانية وتمارس كل ما يلزم لإهانتهم وإذلالهم وكسر إرادتهم، فظلت السجون الإسرائيلية دومًا وسائل عقابية قاهرة لأجساد الأسرى الفلسطينيين ونفوسهم.

بالتزامن مع يوم الأسير الفلسطينى وتحت شعار «إضراب الحرية والكرامة»، انطلق إضراب الأسرى الفلسطينيين في سجون الاحتلال، ويكتسب هذا الإضراب أهمية خاصة للأسرى لأن ذكرى يوم الأسير حدث تاريخى مهم في واقع القضية الفلسطينية ويوم للتضامن مع الأسرى والمعتقلين وحشد التأييد لقضيتهم وتذكير العالم بمعاناتهم في سجون الاحتلال، فقد أدرك الأسرى خطورة الأهداف الإسرائيلية بعد أن ذاقوا مرارة الأوضاع وقسوة الإجراءات على أجسادهم التي لم يعد بالإمكان التعايش معها وتحمل قسوة الواقع أو الصمت والصبر على ما يمارس ضدهم.

لجأ الأسرى في 17 إبريل الجارى إلى خيارهم الأخير بالإعلان عن بدء الإضراب المفتوح عن الطعام بعد استنفاد كل الخيارات الأخرى، في ظل تجاهل المجتمع الدولي وعجز مؤسساته الحقوقية والإنسانية عن إلزام دولة الاحتلال باحترام الاتفاقيات والمواثيق الدولية في تعاملها مع الأسرى الفلسطينيين.

«معركة الأمعاء الخاوية» كانت الخيار الأخير وغير المفضل والأشد ألمًا والأكثر وجعًا، لكن الأسرى لجأوا إليها مضطرين ورغمًا عنهم تجسيدًا لثقافة المقاومة في انتزاع الحقوق المسلوبة وصونًا لكرامتهم المهانة ودفاعًا عن مكانتهم ومشروعية مقاومتهم للمحتل. هي الشكل الأكثر قسوة وصعوبة ولم يلجأ لها الأسرى إلا بعد فشل الخطوات النضالية الأقل ألمًا، فالإضراب الذي بدأه 1500 أسير هو امتداد لخطوات نضالية سابقة ويجسد ذات الثقافة ولا يختلف في دوافعه عما سبقه من إضرابات كثيرة مطالبها واحدة هي صون الكرامة ورفض الإهانة وانتزاع الحقوق وتحسين شروط الحياة في المعتقلات والدفاع عن الوجود والهوية وتعزيز المكانة القانونية للأسرى.

قديمًا قالوا إن «الجوع كافر»، لكن الأسرى جعلوا من الجوع ثائرًا خلف القضبان ومنذ عام 1967 خاض الأسرى عشرات الإضرابات عن الطعام وشهد سجن عسقلان في يوليو عام 1970 أول إضراب جماعي ومنظم يخوضه الأسرى، استشهد خلاله الأسير «عبدالقادر أبوالنجم» أول شهداء الإضرابات عن الطعام، استشهاده كان له تأثير كبير على واقع الحركة الأسيرة فيما بعد وشكل حافزًا للأسرى للاستمرار على ذات النهج وتوالت الإضرابات التي قدموا خلالها تضحيات جسامًا وسقط فيها شهداء.

إسرائيل تخشى من أن تنتقل عدوى انتفاضة السجون إلى انتفاضة خارجها، بعد التضامن الذي أظهره الشارع معها بتنظيم المظاهرات والمسيرات والفعاليات لنصرتها والتفاعل مع إضراب السجون بالإعلان عن الإضراب الشامل في الأراضى المحتلة وتعطيل المدارس والمؤسسات الحكومية، كونه يجعلها مهددة بالأسوأ، لذا تبذل جهودًا كبيرة لوأدها قبل أن تتسع شرارة البدء وتحاول بكل ما أوتيت من قوة قمع الإضراب وإنهاءه بأى شكل، هذا الإضراب بمثابة شرارة جديدة لبعث الروح في الانتفاضة، فالأسرى يساهمون بدور كبير في تحريك الشارع الفلسطيني لأنهم قضية وجدانية جوهرية، وأسير واحد قد يشعل الحالة الثورية بأكملها، فما بالنا بمئات الأسرى الذين يضربون عن الطعام وعددهم مرشح للزيادة.
تعليقات
اقرأ ايضا
الصحف