جمال سلطان
الأزهر يستعيد هيبته ويحيي قوة مصر الناعمة
في تلك الأيام الثلاثة التي مضت ، استطاع الأزهر الشريف ، وشيخه الطيب ، أن يستعيد قدرا كبيرا من القوة الناعمة لمصر ، الدولة والشعب والحضارة ، أمام العالم كله ، عندما استقبلت مصر الأزهر البابا فرانسيس ، بابا الفاتيكان ، ليعلن عن شراكة بين الإسلام والمسيحية في وجه الانحراف الإنساني عن الفطرة ، سواء بالإرهاب أو انتهاك آدمية الإنسان أو سحق الضعفاء والجوعى والمشردين أو تأليه الإنسان بمختلف صور التأليه ، كان العالم كله مشدودا عبر إعلامه وتصريحات سفاراته وممثليه ووزراء الخارجية إلى تلك الوقائع المبهرة التي يحتضنها الأزهر في العاصمة المصرية ، كما كان الحضور الكبير لقيادات دينية مسيحية وإسلامية من مختلف أنحاء العالم استجابة لدعوة الأزهر الشريف لافتا ، وساهم في نجاح "مؤتمر الأزهر للسلام" ، وبدون شك فإن هذه الزيارة أعادت التذكير بخطورة "ألاعيب الصغار" في الداخل ضد الأزهر وشيخه ومكانته واستقلاله وهيبته ، وأن "لعب الصغار" هذا هو تهديد حقيقي لأحد أهم مقومات الدولة المصرية الآن ، وأهم وأكبر مصادر القوة الناعمة لمصر في عالم اليوم ، والمؤسف أن هؤلاء "الصغار" ، بدلا من الإفاقة والاعتراف بخطأ وخطورة سلوكهم ، إذا بهم يحاولون تجاهل الأزهر وشيخه في التغطيات الإعلامية ، فكانت المواقع والصحف والفضائيات تحاول تجاهل شيخ الأزهر ومقابلاته لتحصر الصور والمشاهد والتصريحات في البابا فرانسيس والرئيس السيسي والأنبا تاوضروس ، وهو مستوى من "الغل" والأحقاد والأمراض يصعب أن تجد له علاجا .
جاءت كلمة شيخ الأزهر في لقائه بالبابا موجزة وجامعة وبالغة العمق ، كما حملت من الإشارات الفكرية التي تكشف عن رؤية فلسفية عالمية أكثر من رائعة لمشكلات عالم اليوم وجذورها والطريق إلى علاجها أيضا ، وفي بداية كلمته ، سجل الشيخ أحمد الطيب حقيقة أن زيارة البابا هي استجابة لدعوة الأزهر ، وليس أي مؤسسة أخرى في مصر ، فقال : (الشُّكر لاستجابتكم الكَريمة وزيارتِكم التاريخيَّةِ لمصرَ وللأزهر الشريف، هذه الزيارة التي تَجِيءُ في وقتِها تلبيةً لنداء الأزهر وللمُشاركةِ في مؤتمَرِهِ العالميِّ للسَّلامِ) .
وكرمز ديني يتسامى عن النفاق والمراوغة في كلمة يسمعها العالم كله ، سجل اتهامه للقوى الكبرى بأنها وراء مآسي البشرية الحالية ، فقال : (ولا يَزالُ العُقَلاء وأصحاب الضَّمائر اليَقِظَة يبحثونَ عَن سَببٍ مُقنِع وراء هذه المآسي التي كُتِبَ عَلَينا أن ندفعَ ثمنَها الفادِحَ من أرواحِنا ودمائِنَا، فلا يظفرون بِسَبَبٍ واحدٍ منطقيٍّ، يُبرِّر هذه الكوارثَ التي أناخت مطاياها بساحاتِ الفُقَرَاء واليتامى والأرامل والمُسنِّين، اللَّهُمَّ إلَّا سَببًا يَبدو معقولًا ومقبولًا، ألَا وهو تِجَارَةُ السِّلاح وتَسْويقُه، وضمانُ تشغيل مصانع المَوت، والإثراء الفَاحِش من صفقاتٍ مُريبةٍ، تسبقها قَرارَاتٌ دوليَّةٌ طائشةٌ) .
ثم رفض "الهوجة" التي تظهر في عواصم أجنبية ، وفي القاهرة عاصمة الأزهر أيضا مع الأسف الشديد ، التي تتهم نصوص الإسلام وتراثه بأنها سبب للإرهاب ، ووضع الشيخ الطيب الأمور في نصابها ، بأن هذا الإرهاب والغلو لا شأن له بالنصوص ولا الفكر ، وإنما بالتأويل الفاسد للنصوص ، فقال : (يلزمنا العمل على تنقِية صُورة الأديان مِمَّا عَلِقَ بها من فهومٍ مغلوطةٍ، وتطبيقاتٍ مغشوشةٍ وتديُّنٍ كاذبٍ يُؤجِّجُ الصِّراعَ ويبث الكراهية ويبعث على العُنف.. وألَّا نُحاكِم الأديان بجرائمِ قِلَّةٍ عابثةٍ من المؤمنين بهذا الدِّين أو ذاك، فلَيْسَ الإسلام دين إرهاب بسبب أن طائفة من المؤمنين به سارعوا لاختطاف بعض نصوصه وأولوها تأويلًا فاسدًا، ثم راحوا يسفكون بها الدماء ويقتلون الأبرياء ويرعون الآمنين ويعيثون في الأرض فسادًا، ويجدون مَن يمدهم بالمال والسلاح والتدريب) .
وبهذه العبارة الموجزة الحكيمة ، برأ الأزهر تراث الإسلام الفكري ، قديمه وحديثه على السواء ، من مسئولية الإرهاب والغلو والعنف ، وحمله للتأويلات الفاسدة ، وهذا قطع طريق على اتهام بعض المفكرين المعاصرين أو التيارات الدينية والدعوية الإسلامية الحديثة والمعاصرة من أن تراثها يحرض على الإرهاب ، لأن بعض الإرهابيين يستندون إليها ، فالإرهابيون يستندون إلى نصوص القرآن أيضا ، فهل يعني ذلك أن القرآن يدعو للإرهاب ، حاشا وكلا ، ولكنه التأويل الفاسد ، سواء لنص القرآن أو نص السنة أو حتى نصوص الدكتور حسن حنفي .
وقد تابع شيخ الأزهر تلك العبارة ، بالإشارة إلى الجرائم المروعة التي ارتكبتها الحضارة المسيحية ضد الإنسانية وقتلت ملايين البشر باسم المسيح ، وأتباع اليهودية الذين قتلوا الآلاف في فلسطين واحتلوا الأرض وطردوا أهلها باسم الدين ، والحضارة الأمريكية التي سفكت الدماء وضربت المدن بالقنابل النووية ، مؤكدا أنه لا يحمل المسيحية ولا اليهودية ولا حتى الحضارة الأمريكية المسئولية ، وإنما يتحملها التطرف والغلو الذي ينشأ داخلها والتطبيق الفاسد المنحرف ، ولا يعبر عن جوهرها ، فكل الأديان اخترقها التطرف ومارس بعض أتباعها الإرهاب وسفكوا الدماء ، وليست تلك تهمة لبعض المسلمين وحدهم .
شيخ الأزهر ختم كلمته بنداء لإنقاذ البشرية من تلك الشرور التي ولدتها الحضارة الحديثة ، ولكنه حرص على توسيع نطاق مشروع الإنقاذ ، فهو ليس إنقاذا من الإرهاب وحده ، فالتحدي أعمق وأوسع ، والإرهاب ربما نما من آثاره ، فقال : ( فلْنَسْعَ معًا من أجلِ المُستضعَفِين والجائِعين والخائفين والأسرى والمُعذَّبين في الأرضِ دون فرزٍ ولا تصنيفٍ ولا تمييز)
ولم ينس شيخ الأزهر في ختام كلمته أن يحمل "الحداثة الفكرية" قسطها من المسئولية عن ما آل إليه عالم اليوم من فوضى ودمار وجرأة على الدم وسحق الإنسان ، فقال : (ولا حَلَّ فيما يُؤكِّدُ عُقلاءُ المُفَـكِّرين في الغَربِ والشَّرقِ إلَّا في إعادةِ الوعي برسالاتِ السَّماء، وإخضاع الخِطاب الحَدَاثي المُنحَرِف لقِراءةٍ نقديَّةٍ عَميقة تنتشل العقل الإنساني مما أصابه من فقر الفلسفة التجريبية وخوائها، وجموحِ العقلِ الفردي المُستبد وهيمنَتِهِ على حياة الأفراد .. ولنقف معًا في وجهِ سياسات الهيمنة، ونظريات: صراع الحضارات، ونهاية التاريخ، ودعوات الإلحاد، والعقلية الميكيافيليَّة، والحداثة اللادينيَّة، وفلسفاتِ تأليهِ الإنسانِ، وما ينشأ عن كلِّ ذلك من مآسٍ وكوارثَ في كل مكانٍ ) .
نحن إذن ، لسنا أمام مجرد عالم دين ، وإنما أمام مفكر يحمل رؤية إنسانية عالمية ، وقارئ جيد للفلسفة الحديثة وتأثيرها ، وقد درسها في أحد أهم معاقلها في "السوربون" حيث حصل على الدكتوراة ، يقدم رؤية نقدية لها ، من وحي آثارها الحية في الواقع وما أفرزته من سلبيات ، وهذه أول مرة نسمع فيها خطابا يقلب "الطاولة" على الحداثة ويحملها المسئولية عن انتشار الإرهاب والبؤس والوحشية ، ويبرئ الأديان من المسئولية عنها .
أرجو أن تفيق الدولة المصرية من غفلتها ، وتتسامى على "الصغائر" وأن تنشط أجهزتها ومؤسساتها ، من أول رئاسة الجمهورية إلى وزارة الثقافة ومؤسساتها مرورا بالخارجية وسفاراتها ، لاستثمار ذلك المؤتمر المهيب والزيارة وكلمة شيخ الأزهر ، وترجمة كل ذلك وتوزيعه على أوسع نطاق عالمي ، على الأقل ، كما فعلوا مع لاعب كرة وممثل سينما .