الأهرام
د. نصر محمد عارف
من دندرة تتعلم القاهرة
حقيقتان يجب أن نفكر فيهما ملياً لنفهم كيف تنهض مصر، وتنفض عن وجهها الوضاءِ غبارَ نصف قرن من القعود بجوار حائط الحزن التاريخي، تبكى الماضى المتلألئ بتيجان السبق، والألق الحضاري، وتحلم بمستقبل يعيد من ذلك الماضى البهيج بعض إشراقاته، حتى ولو للحظات كما تشرق الشمس على وجه الفرعون مرة فى العام. هاتان الحقيقتان هما:

أولا: إن النهضة الحقيقية والتنمية المستدامة تقوم بهما المؤسسات الطبيعية وليس المؤسسات المصطنعة؛ التى يأتى دورها فى مرحلة لاحقة، والمؤسسات الطبيعية هى التى ولدت بصورة تلقائية من المجتمع، ولم تفرضها جهة عليا: مثل الدولة أو القوى الأجنبية، والتى احتاجت إلى زمن طويل حتى تنضج، وتستوى على عودها، وتستقر وتكتسب شرعية وجودها. أما المؤسسات المصطنعة فهى التى يتم فرضها على المجتمع من جهات عليا، ومن قوى متحكمة فيه، والتى تولد جاهزة ولا تنمو مع المجتمع نمواً طبيعياً مثل نمو الكائن الحي، فالفارق بينهما مثل الطفل والإنسان الآلي. والمؤسسات الطبيعية مثل العائلة، والطائفة الحرفية، والنقابة، والأندية الرياضية، والطرق الصوفية، والقبائل، والكنيسة والأزهر….إلخ، والمؤسسات المصطنعة مثل الحزب السياسي، والتنظيمات الدينية، وجماعات المصالح، ومعاهد إعداد القادة…إلخ.

المجتمع محتاج لكلا النوعين من المؤسسات، ولكن بترتيبٍ دقيق، وتوالٍ منتظم، فى مرحلة الاستعداد للنهوض والإقلاع؛ يكون الدور الأساسى للمؤسسات الطبيعية، وبعد الوصول لحالة الاستقرار يأتى دور المؤسسات المصطنعة معها دون أن تحل محلها، أو تأخذ دورها.

ثانياً: فى كتابه الرائع «عادات المصريين المحدثين وتقاليدهم: مصر ما بين 1833-1835» فرق إدوارد وليم لاين بين المصرى والمصرلي، حيث المصرى هو ابن هذه الأرض، الذى يرجع أجداده وتاريخهم إلى وادى النيل، والمصرلى من المهاجرين وأبنائهم، القادمين من بلاد الشام وأرمينيا واليونان وتركيا وألبانيا…إلخ، هؤلاء يحتاجون إلى وقت طويل ليتحولوا من مصرلى إلى مصري.

والحقيقة أن كثيرا منهم ظل لقرون لم يتحول، وحافظوا على تصدر المشهد المصري، وقيادة مصر سياسيا واقتصاديا وثقافيا وفنيا، بل ودينياً، فمعظم أعضاء النخبة المصرية حتى تاريخ اليوم هم من المصرليين أكثر منهم من المصريين على حد تعبير وليم لاين.

من هاتين الحقيقتين ننطلق لتحليل المشهد الذى عشته فى دندرة يوم 22 إبريل 2017 بدعوة كريمة من صديق العمر أخى هانى رسلان لحضور فعاليات مراكز دندرة الثقافية، التى دارت حول «القراءة فى مصر: واقع وحلول»، هناك وجدت مؤسسة طبيعية راسخة الجذور فى عمق المجتمع هى الأسرة الدندراوية، يقودها سليل مؤسسيها الأمير هاشم الدندراوى خريج الجامعة الأمريكية؛ الذى يعمل بين ملايين من أفراد أسرته رجالاً ونساء، أطفالاً وشباباً وشيوخاً فى مجالات عنوانها التنمية المستدامة، دون ضجيج ولا دعاية ولا ثمن سياسى كما عودتنا الجماعات التى توظف الإسلام للوصول إلى السلطة دون تأهيل ولا خبرة ولا حكمة ولا قيم.

فى دندرة وضمن هذه المؤسسة الطبيعية؛ الأسرة الدندراوية يوجد نظام تعليمى يستفيد من أحدث النظم التعليمية فى العالم، ويوظف أحدث التكنولوجيات، بل يطبق تجارب نادرة فى نجاحها تقوم على التعليم من خلال اللعب مثل نموذج مدارس مونتيسوري، وهناك أيضا تجربة للرعاية الصحية، وللخدمة الاجتماعية، وللقراءة..إلخ. هناك حالة متكاملة من التنمية المستدامة يقوم بها المجتمع ليعضد من قوة الدولة ويدعمها دون أن ينافسها، أو يشاكسها كما عودنا تجار المجتمع المدني، ومحترفو استمطار الدعم الدولي.

المهم فى هذه التجربة أنها تنتج قيادات مزروعة زراعة طبيعية فى «الغيط الكبير»، وليست قيادات «زرع القصارى فى البلكونة»، هناك وجدت نماذج لقيادات طبيعية هى من نبت المجتمع، نتاج طبيعى لتجربة بشرية ممتدة، تمتلك الموهبة والملكة التى تمكنها من أن تكون قيادات حقيقية، وليست قيادات مصنعة دون تأهل، أو ملكة أو مهارة، سيتم غرسها فى المجتمع لتكون نماذج للغرور والاستبداد، وتضخم الأنا، وتعالى الذات.

لقد عودتنا نخبة المصرليين على أن القيادات تأتى من القاهرة وضواحيها، والمدن الأقرب إليها، من أبناء طبقة المصرليين البيض الشقر ذوى العيون الملونة، والشعر الأصفر السايح، وأن هؤلاء قيادات صنعتها الدولة، لأن هناك من يريدهم أن يكونوا قيادات، وهم فى الحقيقة لا يملكون الموهبة الطبيعية التى تجعلهم كذلك، وأنه لا بأس أن تتم إضافة بعض أبناء المصريين إليهم، حتى يكتمل الديكور، ويصبح المشهد مستساغا.

وجدت فى دندرة شبابا يمتلك موهبة التنظيم، التخطيط والتنفيذ والقيادة، والخطابة وعرض الأفكار، بمستوى لم أجده فى نجوم القنوات المصرية العامة والخاصة من الضيوف أو مقدمى البرامج، ولم أجده فى الذين يتم تسويقهم علينا كقيادات تمت صناعتها لتقودنا فى المستقبل دون أن نعرف المعايير التى تم بناءً عليها اختيارهم، ودون أن نعرف مهاراتهم وقدراتهم، وما يميزهم ليكونوا كذلك. القيادات الشبابية يا سادتى لا يتم صناعتها، ولا يتم فرضها، القيادة ملكة وموهبة، وقدرات طبيعية يحوزها الشخص، وتجعل منه قائدا قادرا على تحريك البشر، من منطق القدوة والمثل، والقدرة على الإلهام والتحفيز، أما صناعة إداريين، أو نواب وزراء أو وزراء موظفين بيروقراطيين، فيمكن ذلك من خلال برامج تدريب، وإكساب مهارات وخبرات، لأنه سيكون رئيسا يفرض وجهة نظره ورؤيته بقوة القانون؛ لا قوة الحجة والإقناع والقدوة والمثل الأعلى.

ما تقوم به مصر الآن من برامج صناعة قيادات هو فى الحقيقة صناعة موظفين كبار، ومساعدين لموظفين كبار سوف يحملهم القانون، وقد يكون وزنهم ثقيلا عليه لطباع شخصية سلبية مثل الغرور والكبر وحب الظهور وعشق النجومية، وتضخم الذات.

القيادات الحقيقية توجد هناك فى دندرة وفى غيرها نبت طبيعى صنعه المجتمع، تملك موهبة ربانية صقلتها تجربة اجتماعية، ينبغى أن تبحث عنهم الدولة ثم تصقلهم بالخبرة والمهارة والمعرفة…القيادات نتاج لزراعة المجتمع فى الغيط الكبير…وليس لزرع القصارى فى البلكونة الصغيرة.
تعليقات
اقرأ ايضا
الصحف