حسن ابو طالب
الطيب وفرانسيس والفردوس المفقود
فى أحد الحوارات تعقيبا على ما جرى فى مؤتمر الأزهر للسلام، الذى حضره رموز الأديان السماوية، كان التساؤل كيف يمكن الاستفادة من هذه المؤتمرات وما قيل فيها من كلمات متوازنة مليئة بالعِبر التى لا خلاف عليها وتدعو إلى السلام والابتعاد عن العنف واحترام اتباع كل دين لاتباع الديانات الأخرى؟ وهو تساؤل يجسد التحدى الحقيقى الذى يواجه ليس فقط المؤسسات الدينية التى تدعو إلى السلام والتصالح مع الآخرمن خلال الأنشطة المختلفة ومن بينها المؤتمرات العالمية، بل الإنسان البسيط فى أى مجتمع جنبا إلى المؤسسات المدنية والرسمية معا. والمسألة ليست مجرد دعوة بل المتابعة والإلحاح والإقناع ودرء الشبهات لتصبح الدعوة نوعا التنشئة الذى يخلق وعيا يتجذر فى النفوس والعقول، ومن ثم يصبح سلوكا يُحد من التطرف والعنف، ويُوقف الصراع ويبدله بتنافس متحضر يُضيف للبشرية أشكالا وسُبلا من السعادة والتوازن الروحى والجسدى.
نحن هنا أشبه بمن يبحث عن الفردوس الدنيوى ومن بعده الفردوس الأعلى، وكلاهما من المُسلمات الأصيلة فى الأديان السماوية. الفردوس الدنيوى هنا يعنى البيئة الدنيوية المُسالمة المُتسامحة التى يزدهر فيها الإيمان الصحيح بالله بجوهره السلام ورفض العنف واحترام كرامة الإنسان والسعى الدائم لإرضاء الله تعالى بالتزام تعاليمه التى جاء بها الأنبياء والرسل، ومع حُسن العمل فى الدنيا، يأتى نيل الجائزة الأعلى أى الفردوس الأعلى فى الأخرة يوم يكون حساب الخالق القدير بلا ظلم لكل المخلوقين.
فى كلمتى الأمام الأكبر الشيخ أحمد الطيب والبابا فرانسيس بابا الكنيسة الكاثوليكية، تجسدت توافقات فكرية على غير موعد، جسدت فى القلب وحدة الأديان ووحدة التعاليم السماوية الداعية إلى خير كل البشر دون تمييز. ومن بين تلك التوافقات الموقف من العنف وتفسيره وعلاقته بالخواء الروحى من ناحية وبالمصالح الدنيوية من ناحية أخرى وشيوع الأفكار والنظريات التى تدعو الى العنف والصدام ونبذ الأخر والابتعاد عن الدين.وبينما أشار الأمام الأكبرإلى المأسى التى يعانى منها العديد من شعوب الأرض، لاسيما فى بلداننا العربية، تساءل حول الأسباب التى تدفع الى هذه الكوارث فلا يجدون إلا سببا يبدو معقولا ومقبولا «ألا وهو تجارة السلاح وتسويقه، وضمان تشغيل مصانع الموت، والإثراء الفاحش من صفقات مريبة، تسبقها قرارات دولية طائشة».ومن جانبه كانت كلمات البابا فرانسيس التى تفسر ظاهرة الصراعات « فإن عدنا للسبب الأساسيّ، من الضرورى وقف انتشار الأسلحة التي، إن تمّ تصنيعا وتسويقا، سوف يتمّ استخداما عاجلًا أو آجلًا. لا يمكن منع الأسباب الحقيقيّة لسرطان الحرب، إلّا إذا استطعنا كشف المناورات الخفية والملتوية التى تغذّيه».
مثل هذا التوافق تبدو أهميته فى انه ربط الصراع وشيوع الحروب وانتشار المأسى الإنسانية والتكالب على تحقيق مكاسب دنيوية بانتشار صناعة الأسلحة وما ورائها من مناورات وألاعيب خفية وظاهرة. الأمر الذى يجعل أى مبرر دينى للحرب والصراع، أى حرب وأى صراع، غير مقبول وغير منطقى وفاسد من حيث البدء والمنتهى. فلا حروب باسم الدين، وإنما حروب من أجل الدنيا وزهوها الزائل.
ويتطور التوافق فى الرؤية بين أكبر مرجعيتين إسلامية ومسيحية كاثوليكية عند تفسير تلك المفارقة التى تعيشها البشرية الآن، حيث المنجزات العلمية والعولمة والنظريات الحديثة فى كل شئ تقريبا والحديث الذى لا ينقطع عن حقوق الإنسان، ومع ذلك وحسب قول الامام الاكبر «فالسلام العالمى مُهدد حيث ينتشر الفقر والاستغلال والتطرف الفكرى والدينى ودعوات الإلحاد، كما تسود الدعوات إلى تأليه الإنسان والعنف والقتل ورفض الأخر والعقلية الميكيافيلية والحداثة اللادينية. وفى تفسير انتشار هذه الظواهر البائسةيرى الشيخ أحمد الطيب أن السبب الرئيسى هو فى»تجاهل الحضارة الحديثة للآديان الإلهية وقيمها الخُلقية الراسخة التى لا تتبدل بتبدل المصالح والأغراض، والنزوات والشهوات، وأولها قيمة الأخوة والتعارف والتراحم بين الناس، وذلك حتى لا يتحوَّل العالَم إلى غابةٍ من الوحوشِ الضَّارية يعيش بعضُها على لحوم بعضٍ». المعنى ذاته تقريبا وإن اختلفت الكلمات والتعبيرات تضمنته كلمة البابا فرانسيس حين يقول «وثمّة خطر بأن يطغى تدبيرُ الشئون الزمنيّة على الدين، وأن يقع ذا الأخير، أى الدين، فى شرك إغراءات السلطة الدنيوية التي، فى الواقع، تستخدمه فى عالم قد عَولَمَ العديدَ من الأدوات التقنية المفيدة، ولكن فى الوقت عينه عولَم الكثيرَ من اللامبالاة والإمال، والذى يتقدّ م بسرعة محمومة، من الصعب تحمّلها».
الى جانب التشخيص لأزمة البشرية المعاصرة هناك أيضا الحل، وهو واحد تقريبا، فالشيخ أحمد الطيب يعتقد «أنَّ الأرضَ الآن أصبحت مُمَهَّدة لأن تأخذ الأديان دورها فى إبرازِ قيمَة «السَّلَام» وقيمَة العَدْلِ والمُسَاواةِ، واحتِرامِ الإنسان أيًّا كان دينُه ولَونُه وعِرقُه ولغتُه». أما البابا فرانسيس فيرى « إنّنا- أى البشرية - بحاجة اليوم إلى بناة سلام، لا إلى محرّضين على الصراعات؛ إننا بحاجة إلى رجال إطفاء، لا إلى مُشعِلى النيران؛ إننا بحاجة إلى الدعاةِ إلى المصالحة، لا إلى المهددين بالدمار» مضيفا أن «الإيمان ليس بالطبع دعوة إلى فضح الشرّ وحسب؛ فهو يتضمن الدعوة إلى تعزيز السلام، اليوم ربّما أكثر من أيّ وقت مضى».ويضيف الإمام الأكبر قائلا «ولنعمل معا على استنقاذ كيان الأسرة مما يتربص به من انفلات الأخلاق، وانحرافات البحث العلمى، واستنقاذ البيئة من الفساد والمفسدين فيها، ولنقف معًا فى وجهِ سياسات الهيمنة، ونظريات: صراع الحضارات، ونهاية التاريخ، ودعوات الإلحاد، والعقلية الميكيافيليَّة، والحداثة اللادينيَّة، وفلسفاتِ تأليهِ الإنسانِ، وما ينشأ عن كلِّ ذلك من مآسٍ وكوارثَ فى كل مكانٍ». وهنا تبرز قيمة الحوار من أجل الوقوف والتصدى لأسباب الفردوس المفقود، والحوار الفعال لدى الباب فرانسيس يأتى من « ثلاثةِ توجّهات أساسيّة، إذا ما تمّ تنسيقها بطريقةٍ جيّدة، أن تساعدَ فى الحوار: ضرورة الهويّة، وشجاعة الاختلاف، وصدق النوايا». يقابلها دعوة الإمام الأكبر بأهمية إعادة «الوعى برسالاتِ السَّماء، وإخضاع الخِطاب الحَدَاثى المُنحَرِف لقِراءةٍ نقديَّةٍ عَميقة تنتشل العقل الإنسانى مما أصابه من فقر الفلسفة التجريبية وخوائها، وجموحِ العقلِ الفردى المُستبد وهيمنَتِهِ على حياة الأفراد».