الأخبار
عبد الحليم قنديل
«الطوارئ» التي نريدها
قد لا يختلف أحد علي دور القوة الصلبة المسلحة في دحر خطر الإرهاب، فثمة خطر حربي يواجه حربيا، وإن كانت الحروب ضد الإرهاب مختلفة في طبيعتها، لا يفيد فيها استعراض العضلات وكثافة الحشود الأمنية، بقدر ما يفيد العمل الأمني الوقائي، وإجهاض العمليات المعادية قبل وقوعها، وهو ما لا يتم سوي بأولوية المعلومات وكفاءة الاستخبارات، والاختراق المنظم لجماعات الإرهاب، وحيازة التكنولوجيا المتطورة، واليقظة التامة عند وقوع عدوان مفاجئ لا يمكن تجنبه، وتقليل الخسائر البشرية إلي أدني حد ممكن، فليست العبرة بضخامة حجم القوات الأمنية، بل بإعادة بناء وتنظيم وتدريب أجهزة الأمن، وتكوين جهاز أمن أرشق وأذكي تستحقه مصر الآن.
وربما لا يكون من جدال كثير في النتيجة المتوقعة، فالإرهاب مهزوم حتما في مصر، وخطر الموجة الإرهابية الحالية إلي تآكل، وكما جري لموجات سبقت، لكن تلك ليست نهاية القصة، ولا هي الضمان الأكيد لمنع تجدد خطر الإرهاب بعد حين، فالمشكلة أكبر من أن تكون أمنية محضة، وجذورها فكرية وسياسية واقتصادية واجتماعية، وهو ما يتفق عليه الكل، سواء الذين يؤيدون إعلان حالة الطوارئ الأمنية لمدي موقوت، أو الذين يتخوفون منها ومن سوابقها، فقد ظلت حالة الطوارئ مفروضة طويلا في مصر، ولثلاثين سنة متصلة منذ اغتيال السادات إلي خلع مبارك، ولم تثبت نجاحها أبدا في اقتلاع جذور الإرهاب، الذي توالت موجاته من أواسط الثمانينيات إلي نهايات القرن العشرين، ولم تتوقف مخاطر تجدده حتي بعد المراجعات الدينية إياها، وعادت للظهور في شرق سيناء أواسط العقد الأول من القرن الجاري، وتواصل انتعاشها إلي الآن بعد فترة صمت قصيرة، وهو ما يعني ببساطة، أن المعالجة الأمنية ليست كافية، حتي لو زادت كفاءتها، بل قد تتضمن مظالم تنفخ في روح الإرهاب نفسه، وهو ما يتوجب الحذر من تكراره، فمن لا يفهم ماضيه الأبعد والأقرب، ويتوقف عند دروسه وعظاته، يكتب عليه أن يعيش في خطاياه إلي الأبد، وقد كانت حالة الطوارئ زمن المخلوع قرينا ملازما لأحوال انحطاط مصري عام، جري فيها دهس نصوص الدستور، ودوس الحريات العامة، وارتكاب جرائم الخصخصة و»‬المصمصة» والسرقات التريليونية، وتجريف القلاع الصناعية الكبري، ودفع غالب المصريين إلي ما تحت خطوط الفقر والبطالة والمرض والتعاسة، ودون أن تفلح إجراءات الطوارئ المتصلة في القضاء تماما علي الإرهاب، ولا في تجنب ثورة المصريين العظمي في 25 يناير 2011.
والمعني ظاهر، ومفاده أن إعلان الطوارئ الأمنية قد يكون مفيدا بشروط، أهمها الالتزام بالدستور، وعدم مدها فوق مدة الستة شهور المقررة بنصوص الدستور، وربما نتمني ألا تزيد المدة عن الثلاثة شهور المعلنة إلي الآن، ورفض التحايل بترك أيام انقطاع، يعودون بعدها إلي »تصفير العداد»، ومد الطوارئ لسنوات، فالتحايل علي الدستور تماما كدهس نصوصه، وتحويل أوراقه إلي »‬مناديل كلينكس»، وهو ما يصح الحذر منه ومن عواقبه الوخيمة، فمصر الآن في أشد الاحتياج إلي تطبيق الدستور المستفتي عليه، وترسيخ حرياته وحقوقه في الواقع، ووقف العدوان عليها بالتحايل أو بالتجاهل، والتحول من معني السلطة الأمنية إلي معني النظام السياسي، وتفكيك الاحتقان السياسي الراهن، وإخلاء سبيل عشرات الآلاف من المحتجزين في غير تهم العنف والإرهاب المباشر، فذلك هو أقصر السبل لعزل خطر الإرهاب، وتوسيع نطاق التعبئة الشعبية ضده، وهو ما يفيد عمل أجهزة الأمن بأكثر مما تفعل صلاحيات الطوارئ، فكبت الحريات العامة يحقق للإرهاب هدفه، وإطلاق الحريات لا يخيف سوي خفافيش الظلام، وسوي الفساد الذي هو أخطر من الإرهاب، فالفساد ينخر في بدن الدولة، ويحولها إلي »‬شبه دولة» أو ركام دولة، تتداعي كفاءتها في ردع الخطر الإرهابي وغيره، ثم أن توحش الفساد يقتل الروح المعنوية للناس، وينشر اليأس العام، ويزيد من أحوال اللامبالاة العامة بحروب البلد، حتي لو كانت في قداسة الحرب الواجبة ضد الإرهاب.
نعم، لابد من إعلان طوارئ سياسية واقتصادية واجتماعية، تفوق في إلحاحها ضرورات الطوارئ الأمنية، وتدشن حربا شاملة لكنس ركام الفساد، وتصفية تحالف مماليك البيروقراطية مع مليارديرات المال الحرام، ووقف اختيارات التجبر علي الفقراء والطبقات الوسطي المتداعية، وتحميلهم وحدهم فواتير إنقاذ الاقتصاد المنهك، ولابد من نظام ضريبي عادل، وجعل »‬العدل» وحده أساسا لنظام الحكم، فالإسلام في كلمة هو »‬العدل»، وقرار عادل واحد أبرك من مليون عظة في أحاديث التجديد الديني المزعوم.
تعليقات
اقرأ ايضا
الصحف