المساء
محمد جبريل
عبدالله أبوهيف
ليوسف إدريس قصة قصيرة بعنوان "شيخوخة بدون جنون" قوامها العبارة التي كان طبيب الصحة يكتبها في شهادة الوفاة. بمعني أن المتوفي المتقدم في العمر لم يعاني الجنون في نهايات أيامه. بما ينعكس علي وصيته للورثة!
لم تعد تلك العبارة ترد ـ فيما أظن ـ في شهادات الوفاة. بل إن الجنون. أو الخوف. غاب عن التعبير الطبي. حل ـ بدلاً منه ـ تعبير الزهايمر. توصيفاً لغياب الذاكرة التدريجي. حتي ينسي المرء كل من حوله. وما حوله. يأخذ ما بقي من حياته دورة عكسية. يرتد فيها إلي الطفولة في الذاكرة والنطق والتذوق وابتلاع الطعام والتعرف علي الأشياء.
إذا كان الزهايمر قد أصبح ـ نتيجة الضغوط التي يعانيها بشر هذا الزمان ـ واحداً من أخطر أمراض العصر. فإن أول ما يعاني تأثيراته هم المفكرون والأدباء. أذكر محمود دياب ونجيب سرور ومحمود السعدني ومصطفي محمود وإدوار الخراط وأحمد عبدالوهاب وغيرهم. تبدو غرابة المرض وقسوته في أن مرضاه من حملة الأقلام ظلوا علي صلة حميمة بالإبداع الذهني حتي أدخلهم المرض نفقه المظلم!
الثابت علمياً أن العضلة التي يطول استخدامها تطول حياتها كذلك. أما العضلة التي يهمل صاحبها استعمالها فقد تفقد جدواها.
لماذا ينطبق المعني علي المفكرين والكتاب الذين ينهلون من الذهن. فهو كنزهم الشخصي. لا يفترون عن الأخذ منه حتي يقطع المرض صلتهم بالحياة المعاشة؟
أخذني إلي هذه الظاهرة التي يصعب فهمها. وفاة الناقد والأستاذ الجامعي السوري عبدالله أبوهيف. بعد أن ظل ما يقرب من ثلاث سنوات حبيس سجن الزهايمر.
كان أبوهيف مثلاً للمثقف العربي الواعي والمسئول. قرأ. وحاضر. وكتب. وأشرف علي أنشطة ثقافية مهمة. شملت اهتماماته حركة الثقافة في الوطن العربي. لا يعزل ظاهرة عن بقية الظواهر. ولا يستوقفه ملمح عن المعني الكلمي. أبدع في القصة القصيرة. وفي الكتابة المسرحية. وأدب الطفل. أفرد مساحة هائلة من كتاباته النقدية لإبداعات من المشرق والمغرب العربي. وترأس تحرير مجلة "الموقف الأدبي" وجريدة "الأسبوع الأدبي". وانضم إلي عضوية المكتب التنفيذي بالاتحاد العام للأدباء والكتاب العرب. ونظم مؤتمرات محورها قضايا تشغل المثقف العربي. وشارك فيها محاضرون من كل الأقطار العربية. وصار أبوهيف نبع الذاكرة لحياتنا الثقافية العربية.
أشرد في السؤال: كيف تسلل المرض اللعين إلي ذهن عبدالله أبوهيف. فأفقده الذاكرة. وأسكت ما يرقي به الإنسان عن بقية الكائنات؟
ليرحمنا الله!
تعليقات
اقرأ ايضا
الصحف