المصريون
احمد السيد على ابراهيم
العمل بالقول الراجح والنهى عن الترخص المذموم (1 ـ2)
الحمد لله حمدا لا ينفد أفضل ما ينبغى أن يحمد ، وصلى الله وسلم على نبينا محمد ، وعلى آله وصحبه ومن تعبد ، أما بعد ،،، فإنّ من أبواب الشرِّ التي فتحها الشيطانُ على العباد بابُ تتبُّعِ رُخَصِ الفقهاء وزلاّتهم ، فخدعَ بذلك الكثيرين من عامة المسلمين ، فانتُهكتِ المحرّماتُ وتُركتِ الواجباتُ تعلّقاً بقولِ أو رخصةٍ زائفةٍ ، فصار هؤلاءِ يُحكِّمونَ أهواءَهُم في مسائل الخلافِ فيأخذون أهونَ الأقوالِ وأيَسَرَها على نفوسهم دون استنادٍ إلى دليلٍ شرعي بل تقليداً لزلّةِ عالمِ لو استبان له الدليلُ لرجع عن قوله بلا تردُّد ، فإذا ما أنكر عليهم أحدٌ تعلَّلوا بأنهم لم يأتوا بهذا من عند أنفسهم بل هناك مَن أفتى لهم بجوازِ ذلك ، وليسُوا بمسئولين ، فقد قلَّدوهُ والعهدةُ عليه إن أصابَ أو أخطأ ، بل أنهَّم يأخذونَ برخصةِ عالم في مسألةِ ما ، ويهجرون أقوالهُ الثقيلة في المسائل الأخرى ، فيعمدون إلى التلفيق بين المذاهب والترقيعِ بين الأقوال ، ويحسبُون أنهم يحسنون صُنعاً ، وأشاع الشيطانُ بين هؤلاء الناس مقولةً : ( ضعها في قفا عالم واخرج منها سالماً ) ، فإذا نزلت بأحدهم نازلةٌ ذهب إلى بعض المتساهلين في الإفتاء ، فبحث له عن رخصةٍ قال بها رجلٌ فيفتيه بها مع مخالفتها للدليل وللحقِّ الذي يعتقده ، وما أكثر هؤلاء الناس من الصنفين ، عاميُّ يذهب إلى المتساهلين الذين يفتون بالرخُّص ومُفتٍ يُرضي الناسَ ولا يفتِ بالدليل ، وبمشيئة الله سنبين - فى هذا البحث – وجوب العمل بالقول الراجح من أقوال الفقهاء ، وحرمة الترخص إلا فى أمور محددة ، لا يجوز تجاوزها .
أولا : تعريف تتبع الرخص :-
ذكر جمع من أهل العلم تعريفات لتتبع الرخص ، منها :
1- تعريف الزركشي – رحمه الله – فى " البحر المحيط " بأنه : { اختيار المرء من كل مذهب ما هو الأهون عليه } أهـ
2- وتعريف الجلال المحلي – رحمه الله – فى " شرح المحلي على جمع الجوامع بحاشية البناني " بقوله : { إن يأخذ من كل مذهب ما هو الأهون فيما يقع من المسائل } أهـ .
3- وحكى الدسوقي – رحمه الله – فى " حاشية الدسوقي على الشرح الكبير " وغيره من المالكية تعريفين :
الأول : { رفع مشقة التكليف باتباع كل سهل }
الثاني :{ ما يُنقض به حكمُ الحاكم من مخالفِ النص وجلي القياس } أهـ .
4- وتعريف المجمع الفقهي بأنه : { ما جاء من الاجتهادات المذهبية مبيحاً لأمرٍ في مقابلة اجتهادات أخرى تحظره } أهـ
ثانيا : أقوال العلماء فى تتبع الرخص :-
بتتبع كتب المذاهب المعتمدة ، ومراجعة أقوال أئمة المذاهب يمكن رد أقوالهم إلى ثلاثة أقوال هى :
القول الأول : منع الأخذ بالرخص مطلقاً :-
وإليه ذهب ابن حزم ، والغزالي ، والنووي ، والسبكي ، وابن القيم ، والشاطبي ، ونقل ابن حزم وابن عبد البر والباجي الإجماع على ذلك .
أدلته :
1- قال تعالى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا } ( النساء : 59 )
وجه الدلالة : أن الله سبحانه وتعالى أمر بالرد إليه وإلى رسوله ، واختيار المقلّد بالهوى والتشهي مضاد لذلك . إذ أن موضوع الخلاف موضوع تنازع ، فلا يصح أن يرد إلى أهواء النفوس ، وإنما يرد إلى الشريعة .
2- قال تعالى : { ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِنَ الْأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ . } ( الجاثية : 18) .
قال الإمام السعدي – رحمه الله تعالى - في " تفسيره " : { أي : ثم شرعنا لك شريعة كاملة تدعو إلى كل خير وتنهى عن كل شر من أمرنا الشرعي { فَاتَّبِعْهَا } فإن في اتباعها السعادة الأبدية والصلاح والفلاح ، { وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ } أي : الذين تكون أهويتهم غير تابعة للعلم ولا ماشية خلفه ، وهم كل من خالف شريعة الرسول صلى الله عليه وسلم هواه وإرادته فإنه من أهواء الذين لا يعلمون .
وجه الدلالة : أن تتبع الرخص ميل مع أهواء النفس ، والشرع جاء بالنهي عن اتباع الهوى .
3- قال الشاطبى – رحمه الله – فى " الموافقات " : { أن القول بالتخير عند اختلاف الأقوال يؤدي إلى الانسلاخ من الدين بترك اتباع الدليل إلى اتباع الخلاف ، والاستهانة بالدين إذ يصير بهذا الاعتبار سيالاً لا ينضبط ، وهو مؤد إلى إسقاط التكليف في كل مسألة مختلف فيها ، فإن معنى القول بالتخيير أن للمكلف أن يفعل متى شاء ويترك متى شاء وهذا إسقاط للتكليف ، بخلاف اتباع الأرجح والتقيد به فإن فيه اتباع للدليل فلا يكون متبعا للهوى ولا مسقطا للتكليف } أهـ .
ثم إنه لا يوجد محرّم إلا وهناك من قال بإباحته إلا ما ندر من المسائل المجمع عليها ، وهي نادرة جداً .
4- كلام الأئمة في التحذير من تتبع الرخص : قال الإمام أحمد : لو أن رجلاً عمل بقول أهل الكوفة في النبيذ وأهل المدينة في السماع وأهل مكة في المتعة كان فاسقاً . وقال الأوزاعيُّ : مَن أَخَذَ بِنَوَادِرِ الْعُلَمَاءِ خَرَجَ مِنَ الإِسْلاَمِ .
وقَالَ إسْمَاعِيلَ الْقَاضِيَ : دَخَلْت عَلَى الْمُعْتَضِدِ فَدَفَعَ إلَيَّ كِتَابًا نَظَرْت فِيهِ ، وَقَدْ جَمَعَ فِيهِ الرُّخَصَ مِن زَلَلِ الْعُلَمَاءِ وَمَا احْتَجَّ بِهِ كُلٌّ مِنهُمْ ، فَقُلْت : مُصَنِّفُ هَذَا زِنْدِيقٌ ، فَقَالَ : لَمْ تَصِحَّ هَذِهِ الْأَحَادِيثُ ؟ قُلْت : الْأَحَادِيثُ عَلَى مَا رَوَيْت وَلَكِنْ مَن أَبَاحَ الْمُسْكِرَ لَمْ يُبِحْ الْمُتْعَةَ ، وَمَن أَبَاحَ الْمُتْعَةَ لَمْ يُبِحْ الْمُسْكِرَ ، وَمَا مِن عَالِمٍ إلَّا وَلَهُ زَلَّةٌ ، وَمَن جَمَعَ زَلَلَ الْعُلَمَاءِ ثُمَّ أَخَذَ بِهَا ذَهَبَ دِينُهُ ، فَأَمَرَ الْمُعْتَضِدُ بِإِحْرَاقِ ذَلِكَ الْكِتَابِ .
والنقول في هذا الباب كثيرة جداً لا تكاد تحصى ، والعلماء متفقون على مضمونها وإن اختلفت عباراتهم ، وعلة ذلك عندهم أنه ما من عالم إلا وله زلةٌ في مسألة لم يبلغه فيها الدليل ، أو أخطأ فهمه فيها الصواب . فمن تبعَ ذلك وأخذ به تملَّص من التكاليف الشرعية ، وزاغ عن جادة الحق وهو لا يدري .
القول الثاني : جواز الأخذ بالرخص مطلقا :-
وقال به من الحنفية السرخسي وابن الهمام وابن عبد الشكور وأمير باد شاه .
أدلته :
1- الأدلة الدالة على يسر الشريعة وسماحتها ، كقوله تعالى : { يريد الله بكم الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسر } ( البقرة : 29 )
وقوله : { مَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ } ( الحج : 78 ) .
قول عائشة - رضي الله عنها - : { ما خُيِّر النبي بين أمرين إلا اختار أيسرهما ما لم يكن إثماً } ( متفق عليه ) وغير ذلك من النصوص الواردة في التوسعة ، والشريعة لم تَرِد لمقصد إلزام العباد المشاق ، بل بتحصيل المصالح الخاصة ، أو الراجحة وإن شقّت عليهم .
الرد عليه : بأن السماح واليسر في الشريعة مقيّد بما هو جارٍ على أصولها ، وليس تتبع الرخص ولا اختيار الأقوال بالتشهي بثابت من أصولها ، بل هو مما نُهي عنه في الشريعة ، لأنه ميلٌ مع أهواء النفوس ، والشرع قد نهى عن اتباع الهوى .
2- قال ابن الهمام : { ويتخرَّج منه ( أي : من جواز اتباع غير مقلِّده الأول وعدم التضييق عليه ) جوازُ اتِّباع رخص المذاهب ، أي: أخذه من المذاهب ما هو الأهون عليه فيما يقع من المسائل ، ولا يمنع منه مانعٌ شرعي ، إذ للإنسان أن يسلك المسلك الأخفَّ عليه إذا كان له إليه سبيل } اهـ
الرد عليه : بعدم التسليم ، لأن تتبع الرخص عملٌ بالهوى والتشهّي ، وقد نهي عنه .
3- أنه يلزم من عدم الجواز استفتاء مفتٍ بعينه ، وهذا باطل .
الرد عليه : بأن اللازم باطل ، بل هو مأمور بتقليد من يثق بدينه وورعه دون الاختيار المبني على الهوى .
4- أن الخلاف رحمة ، لقوله صلى الله عليه وسلم : { اختلافُ أمَّتي رحمةٌ .} فمن أخذ بأحد الأقوال فهو في رحمة وسعة .
الرد عليه : أ – من ناحية السند : فالحديث لا يصح ، قال عنه أهل الحديث : { باطل لا أصل له }
ب – من ناحية المتن : بأن الخلاف ليس في ذاته رحمة بل هو شر وفرقة ، ولكن مراد من أطلق الخلاف رحمة : أن فتح باب الخلاف والنظر والاجتهاد رحمة بالأمة بحيث يكون التكليف مربوطاً بما يراه المجتهد بعد النظر في الأدلة .
القول الثالث : جواز الأخذ بالرخص بشروط :
وقد إختلف المشترطون :
1- فقيّد العز بن عبد السلام فى " قواعد الأحكام " الجواز بألا يترتب عليه ما يُنقَض به حكم الحاكم ؛ وهو ما خالف النص الذي لا يحتمل التأويل ، أو الإجماع ، أو القواعد الكلية ، أو القياس الجلي .
2- وتبعه القرافي فى " نفائس الأصول " وزاد : شرط ألاّ يجمع بين المذاهب على وجهٍ يخرق به الإجماع .
3- وزاد العطار فى " حاشيته " على شرط القرافي شرطين ،هما :
أ- أن يكون التتبع في المسائل المدونة للمجتهدين الذين استقرّ الإجماع عليهم ، دون من انقرضت مذاهبهم .
ب- ألا يترك العزائم رأساً بحيث يخرج عن ربقة التكليف الذي هو إلزام ما فيه كلفة .
ثالثا : صور تتبع الرخص الجائز و المذموم :-
بين الدكتور عَبد السَّلام بن محمَّد الشُّويعر فى بحثه " تتبع الرخص معناه وحكمه " صور تتبع الرخص الجائز والمذموم فقال : { وباستقراء وتأمل مَا ذكرَهُ أهلُ العلم في هذه المسألة .. نجدُ أن تتبع الرخص بهذا المعنى له صور متعددة ، تختلف بحسب اختلاف السبب الموجِب للأخذ بها :
1- أن يكون موجِـب اختيار الرخصةِ بناءً على اجتهاد مِن المجتهد بعد إعمال الوسع في الاجتهاد . أو بناءً على تقليدٍ صحيحٍ من العامي للمجتهد المعتمد . فيصح هنا الأخذ بالرخصة من غير قصد التتبع لها .
2- إذا كان سَببُ الأخذ بالرخص وتتبعها ما تدعو إليه الضرورة ، أو أن تكون هناك حاجة مُلحَّة للأخذ بها . فإن بعضَ العلماء يرى جواز الأخذ به عند تحقق الضرورة أو الحاجة الملحّة كما قال في مراقي السعود عند الحديث عن القول الضعيف :
وكونه يُلجي إليه الضرر إن كان لم يشتدَّ فيه الخور
وثـبت العَـزو وقـــد تحقـقـا ضـــراً مـن الضـر بـه تـعـلـقـا
وأكثر مَن يراعي هذا المعنى من فقهاء المذاهب المالكيةُ ، يقول الشيخ عبد القادر الفاسي : وارتكاب الرخصة يوماً ما للضرورة سائغ .
3- أن يكون موجـِب تتبع الرخص نقضُ حكم القاضي بعد حكمه . فإذا حكم حاكم بأمرٍ فرغب شخص بمخالفة حُكمِه بتتبع الرخص . فإنه يكون ممنوعاً بإجماع .
4- إذا كان الموجِـبُ لتتبع الرخص قصدَ التلهي والعبث . فهو كذلك ممنوع بإجماع ؛ قال في فواتح الرحموت : ولعل هذا حرام بالإجماع ؛ لأن التلهي حرامٌ بالنصوص القاطعة . وَيَستوي في ذلك المجتهدُ والعامي المُقلِّد .
والمقصود بالتلهي هو الأخذ بأحد الأقوال لهَوىً في نفس الشخصِ ورغبةً في قصدِ لهوها .. ومثلَّوا لذلك بالأخذ برأي أهل الكوفة في النبيذ ، أو رأي الظاهرية في السّماع ، أو الشافعي في الشطرنج ، لا عن دليلٍ وإنما بقصد التلهي والعبث
قال شيخ الإسلام ابن تيمية : مَن التزم مذهباً معيَّنا ً، ثم فعل خلافَه مِن غير تقليد لعالم آخر أفتاه ، ولا استدلالٍ بدليل يقتضي خلافَ ذلك ، ومِن غير عُذرٍ شَرعيٍّ يُبيح له ما فعله . فإنه يكون متبعاً لهواه وعاملاً بغير اجتهادٍ ولا تقليد ، فاعلاً للمحرَّم بغير عُذر شرعي ، فهذا مُنكَر .. وقد نص الإمام أحمدُ وغيرُه على أنه ليس لأحدٍ أن يَعتقد الشيء واجباً أو حراماً ، ثم يعتقدهُ غيرَ واجب ولا حرامٍ بمجرد هواه ؛ مثل أن يكون طالباً لشُفعةِ الجوار فيعتقدُها أنها حقٌّ له ثم إذا طُلبت منه شُفعةُ الجوار اعتقدها أنها ليست ثابتة .. أو إذا كان له عدو يفعل بعض الأمور المختلَف فيها كشرب النبيذ المختلَف فيه ، ولعب الشطرنج ، وحُضور السَّماع أن هذا ينبغي أن يُهجَر وينكَر عليه ، فإذا فعل ذلك صديقُهُ اعتقد ذلك من مسائل الاجتهاد التي لا تنكر . فمثل هذا ممكن في اعتقاده حلُّ الشيء وحرمتُه ، ووجوبُه وسقوطُه بحسب هواه هو مذموم بخروجه ، خارجٌ عن العدالة .. .
5- إذا كان تتبعُ الرخص بقصدِ الذهاب للأيسر فقط ، دون النظر للدليل ، أو الضرورة المصاحبة . فقد اختلف أهل العلم في هذه المسألة . وجمهور الفقهاء على المنع من الأخذ بالرخصة فيها. بل نقل ابنُ حَزمٍ ت 456 هـ ، وابن عبد البر ت 463 هـ الإجماعَ على هذا المنع . واختلف القائلون بذلك هل يُفسَّق مَن فعل ذلك ؛ فذهب الإمام أحمد في إحدى الروايتين وانتصر لها ابن القيم إلى أنه يفسَّق ، وبه قال أبو إسحاق المروزي . خلافاً لمن ذهب من الفقهاء إلى جوازه وهم قِلَّة من فقهاء المذاهب .
ولا شكَّ أن مذهبَ الجُمهور أقرَبُ إلى مَعاني الشَّرع ومقاصدِه ، وقد توافر عن السَّلف الصَّالح النهيُ عن تتبعِ الرُّخص والزجر عنها قال سليمان التيمي : لو أخذتَ برخصة كلُّ عَالمٍ اجتمع فيك الشَّرُّ كلُّه . } أهـ .
وقد اشترط مجمع الفقه الإسلامي للأخذ بالرخصة توافر ضوابط معينة ، فنصّ على أن الرخص في القضايا العامة تُعامل معاملة المسائل الفقهية الأصلية إذا كانت محقّقة لمصلحة معتبرة شرعاً ، وصادرة عن اجتهاد جماعي ممن تتوافر فيهم أهلية الاختيار، ويتصفون بالتقوى والأمانة العلمية . ونصّ على أنه لا يجوز الأخذ برخص الفقهاء لمجرد الهوى ؛ لأن ذلك يؤدي إلى التحلّل من التكليف ، وإنما يجوز الأخذ بالرخص وفق الضوابط الآتية :
أ - أن تكون أقوال الفقهاء التي يُترخّص بها معتبرة شرعاً ، ولم توصف بأنها من شواذ الأقوال .
ب - أن تقوم الحاجة إلى الأخذ بالرخصة دفعاً للمشقة ، سواء أكانت حاجة عامة للمجتمع أم خاصة أم فردية .
ج - أن يكون الآخذ بالرخص ذا قدرة على الاختيار، أو أن يعتمد على من هو أهل لذلك .
د - ألا يترتب على الأخذ بالرخص الوقوع في التلفيق الممنوع .
هـ - ألا يكون الأخذ بذلك القول ذريعة للوصول إلى غرض غير مشروع .
و - أن تطمئن نفس المترخّص للأخذ بالرخصة .
رابعا : وجوب العمل بالقول الراجح :-
وقد تواترت الأدلة من القرآن الكريم ، والسنة النبوية ، وأفعال الصحابة رضوان الله عليهم ، واقوال سلف الأمة ، على وجوب العمل بالقول الراجح وترك العمل بالقول المرجوح ، والنهى عن الترخص المذموم .
قال الآمدى – رحمه الله – فى " الإحكام فى أصول الأحكام " : { وأما أن العمل بالدليل الراجح واجب فيدل عليه ما نقل وعلم من إجماع الصحابة والسلف في الوقائع المختلفة على وجوب تقديم الراجح من الظنين ، وذلك كتقديمهم خبر عائشة رضي الله عنها في التقاء الختانين على خبر أبي هريرة في قوله : " إنما الماء من الماء " ، وما روت عن النبي - عليه السلام - أنه كان يصبح جنبا وهو صائم على ما رواه أبو هريرة من قوله - عليه السلام - : " من أصبح جنبا فلا صوم له " ؛ لكونها أعرف بحال النبي - عليه السلام - ، وكانوا لا يعدلون إلى الآراء والأقيسة إلا بعد البحث عن النصوص واليأس منها ، ومن فتش عن أحوالهم ونظر في وقائع اجتهاداتهم علم علما لا يشوبه ريب أنهم كانوا يوجبون العمل بالراجح من الظنين دون أضعفهما . ويدل على ذلك أيضا تقرير النبي - عليه السلام - لمعاذ حين بعثه إلى اليمن قاضيا على ترتيب الأدلة وتقديم بعضها على بعض كما سبق تقريره غير مرة ، ولأنه إذا كان أحد الدليلين راجحا ، فالعقلاء يوجبون بعقولهم العمل بالراجح .
والأصل تنزيل التصرفات الشرعية منزلة التصرفات العرفية . ولهذا قال - عليه السلام - : " ما رآه المسلمون فهو عند الله حسن " . } أهـ .
وهذا بيان هذه الأدلة :

* نائب رئيس هيئة قضايا الدولة – الكاتب بمجلة التوحيد
تعليقات
اقرأ ايضا
الصحف