المصريون
جمال سلطان
نقلة مهمة في رؤية السيسي للتطرف
أخيرا ، تزحزح النظام السياسي المصري خطوة في طريق التصور الصحيح للأسباب الجوهرية لانتشار التطرف والتشدد والإرهاب ، عندما اعترف الرئيس عبد الفتاح السيسي أمس في مداخلته مع عمرو أديب أن الفقر والمعاناة الاقتصادية تدفع الشباب للتطرف والتشدد ، وبطبيعة الحال تؤسس للعنف والإرهاب ، ولطالما بح صوتنا هنا ، وأصوات الناصحين له ولنظامه ، بأن العنف والتطرف ليس قضية أفكار مجردة ، ولا قضية الخطاب الديني وهو خطاب يدرس من مئات السنين خلت ولم يخرج إرهابا وإنما خرج أئمة وقادة وزعماء ووزراء ورؤساء جمهوريات في مصر وأفريقيا وآسيا ، لم يكن التطرف والإرهاب قضية فكر ديني بقدر ما هو قضية خلل اجتماعي وسياسي وإنساني في المجتمع يصنع المناخ والبيئة المناسبة لتوليد التطرف وتكاثر الإرهاب ، وأذكر أن هذا ما قاله أيضا فضيلة الإمام الأكبر شيخ الأزهر الدكتور أحمد الطيب في معرض رده على الحملة البغيضة ضد الأزهر بعد كل حادث إرهابي ليحملوا الأزهر المسئولية لأن الخطاب الديني المزعوم مجمد وفيه نصوص تحرض على التشدد ، فأجاب الإمام ـ فيما أجاب ـ أن الفقر والأوضاع الاقتصادية المتردية تمثل أهم أسباب انتشار التطرف والعنف والإرهاب ، وعندما كنا نكتب ذلك ونعلنه كنا نتهم في وطنيتنا وفي إخلاصنا للوطن في معركته مع الإرهاب ، اليوم قالها لهم السيسي نفسه ، بعد جهد جهيد ، نعم : الفقر والظروف الاقتصادية الصعبة تدفع إلى التطرف والتشدد ، ومن ثم إلى الإرهاب .
أرجو أن تكون تلك النقلة المهمة في رؤية السيسي لمشكلات الوطن دافعا له ، ولمن حوله من صناع القرار ، إلى توسيع نطاق الرؤية بشجاعة كافية ، لكي ندرك مشكلات الوطن في أبعادها الحقيقية ، وليس الوهمية ، فأي قيادة سياسية في حاجة إلى الناصحين من حولها وليس المنافقين والمتزلفين الذين يغرقونه في النهاية ويغرقون الوطن معه ، فليس من المعقول أن نضيع ثلاث سنوات من نزيف الوطن الأمني والاقتصادي والإنساني لكي ندرك في النهاية معنى بديهي يراه العالم كله ، ونسلم بتلك الحقيقة التي كنا نتجاهلها وندير ظهرنا لها ونتهم من يذكرنا بها في وطنيته .
لا أفهم أي معنى للعجرفة الفارغة التي ردت بها الخارجية المصرية أمس على تقرير مفوض الأمم المتحدة لحقوق الإنسان ، عندما حذر من أن السياسات الأمنية القمعية التي تتخذها مصر ضد المعارضين ، وخاصة الإسلاميين ، تساعد على اتساع نطاق التطرف والإرهاب وليس العكس ، وندد مفوض الأمم المتحدة باتساع نطاق الاعتقالات الجماعية وشجب تمديد حالة الطوارئ، والعنف الذي تمارسه قوات الأمن، والقيود على حرية التعبير، وانهيار المجتمع المدني. وقال إن هذه التحركات كلها تقوم على الافتراض الكاذب بأن عمليات استعراض القوة يمكن أن تحل المشاكل ، هذا كلام منطقي وبديهي ، لكن "جهبذ" الخارجية وعنترها الذي دبج ردا عصبيا وخشنا اعتبر بأن هذه حملة على مصر ، رغم أن التقرير نفسه انتقد أيضا تركيا كما انتقد إجراءات في أمريكا نفسها ، ولكنها "الفهلوة" الديبلوماسية ، والخطاب الذي يدبجه المسئول لكي يسمعه أو يقرأه قارئ واحد فقط يتوجه إلى ، وهو الرئيس ، لإثبات إخلاصه له وأنه يدافع عن سمعة النظام ببسالة ، حتى لو كانت غشيمة وخارج نطاق المنطق ومثيرة للشفقة ومضرة بسمعة مصر ونظامها .
الكلام الذي قاله مفوض الأمم المتحدة عن مصر وخطورة توسعها في القمع قاله ثلاثة خبراء أمريكيين أمام لجنة الاستماع بمجلس الشيوخ الأسبوع الماضي أثناء مناقشة المعونة لمصر ، وقالوا نفس الكلام حرفيا تقريبا ، فالعالم كله يرى بوضوح أن تلك الممارسات الأمنية واتساع نطاق الكبت والتضييق على الحريات والاعتقالات وفتح السجون على مصراعيها للمعارضين واستسهال تصنيف الناس واتهامهم بالإرهاب وخنق المجتمع المدني وإعلان الطوارئ ، كل ذلك لا يخدم المعركة ضد الإرهاب والتطرف ، بل يغذي التطرف والإرهاب ويوسع نطاقه ، هذا ما نراه ، إخلاصا للوطن ولدماء أبنائه ، وهذا ما يراه الخبراء في العالم كله ، وهذا ما يشهد به الواقع نفسه ، فاليوم لم يمض شهر على إعلان حالة الطوارئ وسيارات المسلحين تمرح في القاهرة ـ العاصمة ـ وتنال من أبنائنا الضباط وأمناء الشرطة والقوافل الأمنية ، والنجاح الوحيد الذي حققته الطوارئ خلال الشهر هو منع المؤتمر السياسي للنائب البرلماني هيثم الحريري في الاسكندرية ! .
فمتى يرى النظام السياسي في مصر وصناع القرار فيه تلك الحقائق التي يراها العالم كله ، ومتى نستمع للرئيس السيسي وهو يراجع نفسه ، كما راجعها أمس مع عمرو أديب ، ويقر في النهاية بأن سياسات القسوة وخنق الفضاء السياسي وتقييد الحريات كانت خاطئة ، وأن الرؤية لم تكن سديدة للحل ، أرجو أن لا نسمع ذلك في الوقت الضائع ، أو بعد خراب مالطه ، لا سمح الله .
تعليقات
اقرأ ايضا
الصحف