الأهرام
عبد الفتاح الجبالى
نحو سياسة مالية ذكية
يناقش فى هذه الآونة مشروع الموازنة العامة للدولة عن العام المالى 2017/ 2018 وهى مسألة غاية فى الأهمية فى ضوء المؤشرات الحالية
التى تشير الى ارتفاع قيمة العجز الكلى للموازنة، حيث يصل الى 12٫3% عام 2015/2016 وازدياد حجم الدين العام ووصوله الى نحو 96% من الناتج، مما يهدد الاستقرار المالى للدولة. من هنا فان التركيز على كيفية علاج هذه المشكلات يعد من الاهمية بمكان بحيث لاتترك فقط لاعضاء البرلمان، وفى هذا السياق اشار تقرير الراصد المالى الصادر عن صندوق النقد الدولى (ابريل 2017 ) الى ان السياسة المالية الذكية هى التى تتمكن من تحقيق الاستقرار الاقتصادى وتشجع النمو الاحتوائي، خاصة فى فترات الركود وفى ضوء محدودية الموارد والمفاضلة بين الاحتياجات المختلفة، وذلك عبر خمس آليات أساسية (وهى ان تكون مضادة للاتجاهات الدورية عن طريق الضبط التلقائى بالإيرادات والمصروفات التى يجب ان تتكيف مع مايمر به الاقتصاد من ركود وكساد والعمل على زيادة الاستثمار العام مع مراعاة الدقة فى اختيار المشروعات وضمان الكفاءة وضرورة العمل على احتواء الجميع( النمو الاحتوائي)، مع ما يعنيه ذلك من ضمان وصول ثمار النمو الى الشرائح الفقيرة والطبقات المتوسطة، وهنا يمكن استخدام برامج الدعم النقدى المشروط وزيادة الإنفاق على الصحة والتعليم. مشيرا الى ضرورة استخدام الأداة الضريبية لإيجاد حيز مالى عن طريق توسيع القاعدة الضريبية وترشيد سياسات الدعم، وتحسين الإدارة الضريبية، على ان تكون سياسة حذرة، بمعنى ان تفهم جيدا المخاطرالتى تتعرض لها والعمل على معالجتها مبكرا.

ويرجع السبب فى ذلك الى ان الاهداف الرئيسية للمالية العامة تدور حول تعزيز النمو الاقتصادي. وتشجيع استخدام الموارد بكفاءة وفعالية، وبالتالى يتمثل التحدى الذى يواجهها فى ضمان مستوى من الإنفاق العام يتسق مع الاستقرار الاقتصادى الكلى ثم تجرى بعد ذلك هيكلة الإنفاق كجزء من الإجراءات التنفيذية للسياسة المالية، لذلك فان هيكل الإنفاق العام لا حجمه هو المهم.

من هذا المنطلق فان تحديد خطورة العجز من عدمه ترتبط بالأساس بالحالة الاقتصادية للبلاد ، سواء فى الأجل القصير أوالطويل والمتوسط، فإذا كانت الدولة فى حالة كساد فان السعى نحو تحقيق التوازن المحاسبى فى الموازنة يعتبر هدفا غير سليم من المنظور المجتمعى إذ يسهم فى المزيد من التباطؤ الاقتصادي. اى ان هدف الإنماء الاقتصادى يحظى بالأولوية فى السياسة الاقتصادية حتى ولو جاء على حساب التوازن المالي. وبالتالى يجب أن يكون الحكم على عجز الموازنة العامة فى الأجلين المتوسط والطويل، آخذين فى الاعتبار قدرة هذا العجز فى دفع عجلة النمو وزيادة قدرة الاقتصاد على توليد الموارد اللازمة لتقليص هذا العجز .من هنا فإن مناقشة دور المالية العامة يجب ألا تقتصر على تطور العجز فى الموازنة، بل يجب أن تأخذ بعين الاعتبار مدى مساهمتها فى إيجاد فرص عمل جديدة، ورفع معدلات الاستثمار وتغيير هيكل الإنتاج القومي.

وبالتالى فان تحليل السياسة المالية من المنظور التنموى والذى يعمل على رفع كفاءة استخدام الموارد وتنميتها، يتطلب تحويل محور الاهتمام والتركيز من حجم وقيمة العجز إلى خصائص السياسة المالية، اى تركيب الإنفاق العام والإيرادات العامة، بالإضافة إلى تحليل سمات النظام الضريبي. اى التركيز على خصائص السياسة المالية وليس موقفها.

وعلى الجانب الآخر تركز الكتابات الحديثة فى المالية العامة على مدى سلامة المالية العامة والمبنية على فكرة الاقتدار المالى، وهى تشير ببساطة إلى إن السياسة المالية تصبح غير قابلة للاستمرار إذا أدت إلى تراكم الدين العام بشكل يفوق قدرة الحكومة على خدمة هذا الدين على المديين المتوسط والطويل. لذا فان تقييم هذه الأوضاع على أنها غير قابلة للاستمرار فى المستقبل قد يشير إلى ضرورة إجراء تغييرات فى السياسة الراهنة، عموما فان ازدياد الدين العام إلى الحد الذى يتعذر معه ببساطة الاستمرار فى تحمل أعبائه على المدى البعيد يشير إلى ضعف المالية العامة.

وبمعنى آخر فان القدرة على تحمل الدين تتوقف على سعر الفائدة ومعدل النمو الاقتصادى ونسبة العجز الأولى للموازنة (أى العجز الكلى مطروحا منه مدفوعات الفائدة) إلى إجمالى الناتج. وطالما ان سعر الفائدة على الدين العام يتجاوز المعدل الأسمى للنمو الاقتصادى فان الدين العام سوف يميل إلى النمو بوتيرة أسرع من إجمالى الناتج المحلى، إلا إذا كان لدى البلد فائض أساسى فى الموازنة. وكلما اتسعت الفجوة بين سعر الفائدة ومعدل النمو الاسمى ،كبر حجم الفائض الأساسى المطلوب للحفاظ على نسبة الدين إلى الناتج.

مما سبق يتضح لنا ان علاج العجز فى الموازنة ينبغى أن ينطلق من عدة مبادئ أساسية منها إن علاج العجز لا يعنى القضاء عليه بل الوصول به إلى مستويات مقبولة مجتمعيا.وإن هذا العلاج سوف تترتب عليه تكاليف معينة يجب ان يتحملها المجتمع بعدالة. كما أن علاج العجز يجب أن يتم على مدى زمنى متوسط وطويل وليس القصير.

من هذا المنطلق يجب ان تقوم السياسة المالية على تغيير توجه المجتمع من الجباية وتجميع أعلى قدر من الفائض الاقتصادى فى المجتمع بيد الدولة التى تقوم بإعادة توزيعه مرة أخرى، إلى ترك الجانب الأكبر من هذا الفائض داخل المجتمع المالى وتحسين عمل الآليات التى تعيد توزيعه بين الاستهلاك والاستثمار من جهة، وبين مختلف فئات المجتمع من جهة أخرى.وذلك عن طريق التركيز على إعادة توزيع الدخول لصالح محدودى الدخل من خلال الاستخدام الأمثل للآليات السيادية مثل الضرائب والجمارك، بحيث تعتمد على أدوات مالية مستقرة وتعتمد فى حصيلتها على توسيع المجتمع الضريبى بدلا من رفع معدل الضريبة.

وعلى الجانب الآخر يجب بناء السياسة المالية على أساس المشاركة بين المجتمع والحكومة تبنى على أساس الثقة المتبادلة والتى تعتمد بالأساس على المصارحة والشفافية بحيث يبنى القرار الاستثمارى على بنية من الحقائق والمعلومات الدقيقة فى التوقيت المناسب.والاعتماد على الفهم الديناميكى للحكم على المتغيرات الاقتصادية فتكون القدرة على محاربة الفقر ليس فقط بما يتم إنفاقه الآن على هذه المسألة ولكن وهو الأهم بالقدرة على استمرار هذا الإنفاق، وبالتالى خفض أعداد الفقراء على المدى البعيد. إذ ينبغى ان توجه سياسات الإصلاح المالى إلى تحقيق هدف النمو الاحتوائى على الأجل الطويل. إن أى قرار اقتصادى فى هذا الشأن يجب ان يأخذ بعين الاعتبار جميع التشابكات السعرية فى المجتمع.
تعليقات
اقرأ ايضا
الصحف