جمال سلطان
تلك الرائحة في قضية مطار الإسكندرية الدولي
بداية المفاجأة كانت في لقاء الرئيس بالشباب في الإسماعيلية عندما قال أن مطار الإسكندرية الدولي "النزهة" لن يتم استخدامه ، رغم الانتهاء من تطويره تطويرا شاملا على مدار أربع سنوات ـ ثلاثة منها في عهد السيسي المباشر ـ بمبالغ تجاوزت ثلاثمائة مليون جنيه ، وقال الرئيس باقتضاب استثنائي ، لاعتياده الاسترسال عادة : "لن نستطيع استخدام هذا المطار لأسباب كثيرة، أرجو أن تعفونى من ذكرها" ، لم يقل السيسي عبارته الشهيرة : أرجوكم ما حدش يكلمني في الموضوع تاني ، لكن لهجته هنا كانت كافية ، ولا يوجد مسئول واحد جرؤ على أن يشرح كلمة أو أن يضيف سطرا في هذا اللغز الكبير .
وزير الطيران المدني شريف فتحي عندما سألوه في نقابة الصحفيين قال بإيجاز معبر "إن توجهات الدولة والمصلحة العامة تقتضي عدم تشغيل مطار النزهة وفقا لتوجيهات الرئيس عبد الفتاح السيسي" ، يعني باختصار ، هذه أوامر الرئيس ونحن ننفذ ، ولا تسألني عن أي معنى أو سبب مفهوم ، كما لا تسأل عن المصلحة العامة السرية في بيع مطار جاهز للتشغيل ، هذه طريقة لا تصدق في إدارة دولة ، وفي التعامل مع الشعب الذي من المفترض أنه مالك هذه المقدرات كلها ، وأنه من حقه أن يسأل من وكله ، سواء كان رئيسا أو وزيرا ، عن تصرفه في ما أوكل إليه ، وبدون أن يسأل ، من البديهي أن الرئيس إذا أقدم على قرار يمثل في ظاهره إهدارا لمقومات اقتصادية وحياتية مهمة للشعب ويتضرر منها ، أن يوضح للناس مبررات هذا القرار بوضوح وشفافية ، لا أن يقول أن هناك أسبابا كثيرة اعفوني من ذكرها ، وهل كانت هذه الأسباب مجهولة بالنسبة للرئيس طوال ثلاث سنوات من حكمه والشركة السعودية تعمل بكل همة على تطوير المطار ، وخزينة المال العام ـ الفقير قوي ـ تنفق على تطويره مئات الملايين من الجنيهات ، ثم فجأة اكتشف الرئيس أن المطار لا يصلح أو لا يمكن تشغيله ، وأن هناك أسبابا سرية للغاية بحيث لا يصح للشعب أن يطلع عليها .
المطار الذي أنشأه الملك فاروق عام 1947 ، ومن المقرر أن يبيعه الرئيس السيسي في 2017 ، هو أحد المعالم التاريخية والمعمارية للعاصمة الثانية ، وهو للإسكندرية مثل مطار القاهرة الدولي للعاصمة ، بالنظر إلى تاريخيته ، وبالنظر إلى قربه من قلب المدينة وسهولة وسرعة الوصول إليه ومنه ، سواء كان لسفر الأفراد أو للتجارة والتصدير ، كما أنه يخدم ملايين المصريين العاملين في الخليج ، بخلاف هؤلاء الذين يستخدمونه في الداخل للسفر إلى الاسكندرية ، والمطار مقام على مساحة شاسعة تتجاوز الستمائة فدان ، أي أكثر من ربع مليون متر مربع بالقرب من قلب المدينة ، وهو ـ باختصار ـ مطمع يسيل له لعاب كثيرين داخل مصر وخارجها ، وقد تردد أن المطار سيتم بيع أرضه لمستثمر إماراتي ، وقيل أنهم مجموعة مستثمرين عرب ومصريين ، لتحويل أرضه إلى مولات تجارية وملاهي ومنتجعات سكنية للشريحة القادرة .
بعض ما يتم تسريبه يتحدث عن أن جهات سيادية أو أمنية قالت أن المطار يصعب تأمينه ، نظرا لوجود عشوائيات حوله ، وآخرون قالوا أن ارتفاعات بعض المباني حوله تعيق حركة الطيران ، وكل ذلك الكلام تم نفيه على لسان خبراء ، كما أنها أسباب مهينة للدولة نفسها ، فلا أتصور أن دولة بكل جيشها وشرطتها وأجهزتها عاجزة عن تأمين مطار ، كما أن الحديث عن العشوائيات وكأنها دولة خارج الدولة ، وأنت عندما تشق طريقا للأسفلت أو كوبري تصادر أراضي وعقارات للمصلحة العامة ، فكيف يمكن التحجج بأن الدولة عاجزة عن إزالة أو إعادة تنظيم العشوائيات وبالتالي قررت إلغاء المطار الذي يخدم ملايين البشر ، كما أن تلك الأسباب بكاملها موجودة في مطار القاهرة الدولي نفسه وما يحيط به من كتل سكنية تجاوزت الارتفاعات المسموح بها وأصبح اليوم يتواجد في محيط كتل سكنية هائلة ، كما أن تلك الأسباب تبدو سطحية وساذجة ولا تستدعي أن تكون سرية وخطيرة لدرجة أن رئيس الجمهورية لا يواجه الناس بها ويعلنها في وضوح وصراحة ، وهناك تقارير صحفية تحدثت عن حالات شراء نهمة للمناطق العشوائية القريبة من المطار من قبل مستثمرين كبار ، بما يعني أن لديهم معلومات مسبقة عن "نوايا" حكومية لبيع المطار وتدمير ما تم إنجازه ومحو جزء من ذاكرة الإسكندرية وصورتها التاريخية الجميلة ، ويتردد الآن أن أسعار الأراضي حول المطار وصلت لأسعار فلكية وغير متصورة بعد التسريبات الأخيرة .
رفض رئيس الجمهورية الإفصاح عن نواياه تجاه المطار ، والأسباب التي جعلته يقرر شخصيا وقف تشغيله الذي كان من المقرر هذه الأيام بعد أن تمت عمليات تطويره وأصبح تحفة معمارية وسياحية ، وطلب الرئيس ألا يسأله أحد عن أسباب قراره ، فتح الباب واسعا حول الشكوك والاتهامات وشبهات واسعة ، أربأ بالقيادة المصرية أن تتجاهلها أو تدير لها الظهر ، خاصة في ظل الظروف التي تحياها البلد الآن .
الشفافية مطلوبة ، والمصارحة ضرورية ، وفي السياسة لا نتعامل مع أنبياء أو قديسين ، وإنما مع بشر ، يصيبون ويخطئون ، يحسنون ويسيئون ، ومن حق الناس أن تسأل ، ومن واجب الدولة أن تجيب ، واللي اتلسع من الشوربة أيام مبارك ينفخ في الزبادي أيام السيسي ، كما يقول العامة في أمثالهم الخالدة .