ما أكثر أموال الأوقاف التي ضاعت بسبب إهمال بعض الموظفين. إما جهلاً أو فساداً في الذمة.. أموال الأوقاف مثل مال اليتيم. من يأكلها سُحتاً. فإنما يأكل في جوفه ناراً.. إذ أن هذه الأموال أوقفها أهل الخير لرعاية طلاب العلم أو لليتامي أو للمساجد وللفقراء ولرعاية الحيوانات حتي الكلاب الضالة. أوقف أهل الخير عليها أراضي لرعايتها. والمتتبع لحُجج الوقف يجد صوراً شتي لأعمال الخير بكافة أنواعها بدءًا من رعاية الفقراء والمرضي وأطفال الشوارع. حتي الحمامات العمومية. وهذا النظام غير معروف في أي شريعة من الشرائع سوي البلاد الإسلامية. لذلك نظم الفقه الإسلامي مسائل الوقف وأنشأ لها حلولاً. وافترض مشكلات قام بحلها وتنظيمها بقواعد وأحكام عدة متناثرة في كتب الفقه الإسلامي حتي لا تضيع أموال الخدمة العامة بين أيدي الطامعين والنصابين واللصوص. الذين يسطون علي أموال الوقف وتبديده.
في قضية نظرتها المحاكم من بين عشرات القضايا.. تقدم أحد المتقاضين بدعوي يطلب فيها تثبيت ملكيته في عقارات مختلفة ومتعددة. يقدر ثمنها بالملايين من الجنيهات.. طعنت هيئة الأوقاف علي ما قدمه المدعي من عقود ومستندات. وكان صاحب الدعوي قد ندب مكتب أبحاث التزييف والتزوير بمصلحة الطب الشرعي بوزارة العدل ليضع خبراؤه تقريراً يرفعه إلي المحكمة. قدم المدعي صوراً من حجج الوقف ليثبت ملكيته لهذه العقارات الموضحة بصحيفة دعواه. ولم تقدم الهيئة أوراقاً مضادة في الطعن بالتزوير الذي أبدته أمام المحكمة. إلا أن الحقوق دائماً يحميها الحق سبحانه وتعالي. الذي هيأ رجالاً خبراء وقضاة يعبدون الله ويتقربون إليه بإخلاص في العمل والأمانة في الأداء.
انتقل خبير أبحاث التزييف والتزوير إلي أماكن عدة. وبعد رحلات متصلة بين المكاتب والإدارات المختصة كان آخر مكان هو محفوظات الوثائق بدار الكتب. وأخذ يفحص مجلداً بعد آخر. ويزيل أتربة وينظم أوراقاً حتي آخر سجل أحضره الموظف المختص بفحصه وجده فارغاً إلا من ثماني ورقات بها حجة وقف أهلي باسم المدعي. لفت نظره أن الحجة لا تحمل تاريخاً ولا اسم المحكمة التي أشهرته. ولا اسم القاضي. أو كاتب الجلسة. فقط بيان بالعقارات وما يدل علي أن المتقاضي هو المستحق لهذه العقارات بخط حديث الكتابة.
دخل الشك قلب الخبير الفاحص. وأخذ يقلب في المجلد يميناً ويساراً حتي لمح علي غلاف المجلد بيانات بتاريخ قديم. قدم ما يدعيه المطعون ضده لإشهار الوقف في العقد الأول من القرن العشرين. وكانت تلك البيانات مسطرة بالحبر الجاف الذي لم يكن موجوداً في ذلك التاريخ. وهنا تمكن الخبير من كتابة تقريره بنتيجة نهائية مؤداها أن السجل المقدم إليه صنع حديثاً بغرض إدخال الغش والتدليس علي المحكمة والخبير وهيئة الأوقاف.
تقضي المحكمة برفض الدعوي مستندة إلي ما حرره الخبير الأمين المتقن لعمله.
ينصرف المدعي من المحكمة ويسمعه الناس يقول: "إن الله لم يرد لي شيئاً لا أستحقه. ولقد آمنت بالله الذي حماني من نفسي".