الأهرام
عبد الرحمن سعد
الشيخوخة.. ما أعددتَ لها؟
يخاف أي إنسان من الفقر والمرض والفشل، إلا أن خوفه يظل أكبر من بلوغه الشيخوخة، وما يقترن بها من خشية الموت نفسه.. فمن منا لا يخشى تراجع إدراكه، ولا يقشعر بدنه حين يُفاجأ بتغير ملامح وجهه، ولون شعره، ووهن روحه، وضعف جسده، وفقدان بهائه.. إلخ؟
لقد خلصت دراسة نشرتها صحيفة "جارديان" البريطانية، يوم الأربعاء الماضي، إلى توصل العلماء إلى وجود عامل عضوي يحدد طول العمر، وأن الجسد البشري له "مدة صلاحية"، وعمر افتراضي، وسقف زمني، يبدأ بعده منحناه العمري في التراجع، حتى يصل إلى نقطة اللا عودة، وهي "الموت"، كطبيعة إنسانية، متأثرا بساعة "بيولوجية" داخلية، تؤدي إلى وقف خلاياه.

إن الشيخوخة "كأس"، وكل الناس شاربه، وقد ذكرتني بحوث علماء الشيخوخة، بآيات قرآنية، حققت هذا السبق العلمي، قبل أكثر من أربعة عشر قرنا، مع سطوع نور الإسلام على العالمين، إذ قال تعالى: "وَمَن نُّعَمِّرْهُ نُنَكِّسْهُ فِي الْخَلْقِ ۖ أَفَلَا يَعْقِلُونَ".(يس: 68).

هنا يحدَّثنا القرآن عن "النَّكْس في الخلق"، الملازم للإنسان؛ كلما تقدم في العمر، ومعناه: ردُّه في الهِرم، إلى مثل حاله بالطفولة، وكما خُلق من ضعف سيعود للضعف، "لِكَيْ لَا يَعْلَمَ بَعْدَ عِلْمٍ شَيْئًا".

وهذا ما تشير إليه آيات عدة، منها قوله تعالى: "لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ * ثُمَّ رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ سَافِلِينَ". (التين:4و5)، وقوله: "اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ ضَعْفٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفًا وَشَيْبَةً". (الروم:54)، وقوله: "وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ ثُمَّ يَتَوَفَّاكُمْ وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْ لَا يَعْلَمَ بَعْدَ عِلْمٍ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ قَدِيرٌ".(النحل: 70 )، وقوله: "وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْلَا يَعْلَمَ مِنْ بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئًا".(الحج: 5).

وتتحدث هذه الآيات، كافة، عن عقل يضعف، وجسد يبلى، ووهن يصيب المرء، يلخصه تعبير "أرذل العمر"، الذي يختلف باختلاف الناس.

والفرق بين التعبير "ينسى" وتعبير "لِكَيْلَا يَعْلَمَ مِنْ بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئًا" هو أن الناسي، بحسب علماء، قد يتذكر، ولكن من يُرد إلى أرذل العمر؛ لا سبيل ليعود علمه إليه.

و"أرذل العمر" معناه "أردؤه وأسوؤه"، وهو وصف للعمر، لا للشخص، فلا يُقال "رذيل العمر".

وقد تفاوتت تقديرات العلماء لتلك السن. فقال علي: خمس وسبعون سنة. وقال قتادة: تسعون. وقيل: ثمانون سنة. ولكن "أرذل العمر" لا يُحد بمقدار معين، بل المقصود به بلوغ المرء الكبر والهرم، وإصابته بضعف العقل مع ضعف البدن، وهي حال تختلف من شخص إلى شخص، ومن زمن إلى زمن، ومن بلد إلى بلد، وفق مؤثرات نفسية وجسمية ووراثية عدة، وفق علماء.

وتختلف الحكمة في ردِّ المرء إلى "أرذل العمر" باختلاف الأشخاص، ففي حق البعض هي كفارة ذنوب، وفي حق البعض الآخر هي عقاب في الدنيا، شأنه شأن أي بلاء.

ولأجل "سوء أرذل العمر" كان النبي، صلى الله عليه وسلم، يتعوذ منه دبر كل صلاة. وروى "البخاري" أنه، صلى الله عليه وسلم، كان يتعوذ دبر الصلاة، فيقول: "اللهم إني أعوذ بك من الجبن، وأعوذ بك أن أُردَّ إلى أرذل العمر، وأعوذ بك من فتنة الدنيا، وأعوذ بك من عذاب القبر".

وهذا السبق العلمي نفسه، ورد في السنة النبوية، إذ قال رسول الله، صلى الله عليه وسلم: "أعمار أمتي ما بين الستين إلى السبعين، وقليل من يتجاوز ذلك".

كما ورد في الحديث: "قال رسول الله، صلى الله عليه وسلم: "خير الناس مَنْ طَالَ عُمُرُهُ وَحَسُنَ عَمَلُهُ".(صححه الألباني).

وأخبر النبي، صلى الله عليه وسلم، أن هناك أعمالا صالحة تؤدي إلى طول العمر، كصلة الرحم؛ فقال: "من أحب أن يُبسط له في رزقه، ويُنسأ له في أثره فليصل رحمه".. ذلك أن صلة الرحـم من أسباب طول العمر.

وبجانبها، يجب على المرء الإكثار من الأدعية التي ثبتت عن النبي، صلى الله عليه وسلم، مثل قوله: "اللهم أحيني ما كانت الحياة خيراً لي، وتوفني إذا كانت الوفاة خيراً لي". (متفق عليه).

وعَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: كَانَ مَقَامِي بَيْنَ كَتِفَيِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم حَتَّى قُبِضَ، فَكَانَ يَقُولُ إِذَا انْصَرَفَ مِنَ الصَّلَاةِ: "اللَّهُمَّ اجْعَلْ خَيْرَ عُمْرِي آخِرَهُ، وَخَيْرَ عَمَلِي خَوَاتِمَهُ، وَاجْعَلْ خَيْرَ أَيَّامِي يَوْمَ أَلْقَاكَ".

والأمر هكذا: نحن مدعوون، قبل غروب شمس حياتنا، إلى تجديد التوبة، وإخلاص النية، وإحسان العمل. فكل منا بشر، يخطئ حتما، لكن المهم أن لا تتوقف عن إصلاح خطئك، مهما تكرَّر، وغلبه ضعفه، فقد يبدَّل الله سيئاته حسنات.

أخيرا، قال الرافعي: "ما رأيت كالدين وسيلة تجعل الطفولة ممتدة بحقائق إلى آخر العمر في هذا الإنسان".

وقال بعض الصالحين: "طوبى لمن مات، وماتت معه ذنوبه، والويل لمن يموت، وذنوبه باقية بعده".
تعليقات
اقرأ ايضا
الصحف