الوطن
محمد حبيب
حتى يكون السقوط من حالق!
(١) تعالوا بنا إلى مارس من عام ٢٠٠٧، حيث كانت تُعقد الندوة السنوية لمركز الدراسات العربية المعاصرة بجامعة جورج تاون الأمريكية بواشنطن، وقد نظم الندوة وأدارها الدكتور جون سبوزيتو، الأستاذ بالجامعة، والمستشار السابق فى إدارة التخطيط السياسى بوزارة الخارجية الأمريكية، والناشط فى مجال الاتصال بالإخوان المسلمين من خلال المعهد الدولى للفكر الإسلامى بواشنطن، فى تلك الأيام، اتصل بى الأستاذ المصرى (ذو الجنسية الأمريكية) د. سامر سليمان الذى يعمل بتلك الجامعة وله نشاطه الملحوظ فى المركز المذكور، يدعونى لحضور تلك الندوة، فاعتذرت عن تلبية الدعوة لمشاغل عندى ورشحت له الدكتور «الكتاتنى»، الذى حضر الندوة بالفعل، وكان مما أورده «حماد» فى كتابه (الوحى الأمريكى، قصة الارتباط «البناء» بين أمريكا والإخوان) عن لب ما أدلى به «الكتاتنى» من مداخلات فى هذه الندوة، هو: «أن تأييد الولايات المتحدة لنظم الحكم غير المحبوبة فى البلدان العربية هو أحد أسباب تزايد شعبية الإسلاميين»، وهذا هو الخبر السار، أما الخبر المحزن فهو: «أن كثيراً من الناس فى بلادنا سوف يستمرون فى التحول الراديكالى (أى نحو العنف ورفض الآخر، وهذا كلام «حماد» وليس كلام «الكتاتنى») بسبب هذه الحكومات القمعية، وهذا هو الأمر الأكثر إضراراً بالأمن الغربى، بشقيه الأمريكى والأوروبى، ولكن الجماعات الإسلامية المعتدلة مثل الإخوان المسلمين سوف تستمر فى النضال السلمى».

(٢) يقول «حماد» فى كتابه (المرجع السابق): «إنه فى يوم ٢٨ يونيو ٢٠٠٧ اعتمدت وزيرة الخارجية الأمريكية، كونداليزا رايس، سياسة جديدة، ترخص لدبلوماسييها الاتصال الرسمى بالإخوان المسلمين فى مصر والعراق وسوريا، وبقية الدول العربية، واشترطت تعليمات «رايس» لسفرائها ومساعديها أن تكون البداية هى الاتصال بممثلى الجماعات المنتخبين فى البرلمانات، والنقابات المهنية، ثم تمتد الاتصالات لتشمل الزعماء الآخرين للجماعة»، والحقيقة أن هذه التعليمات أقدم كثيراً مما ذكره «حماد»، بل من قبل أن تظهر كونداليزا رايس فى الأفق بزمن طويل، وما كانت الخارجية الأمريكية يوماً بمعزل عما يجرى فى مصر أو فى أى مكان آخر من عالمنا العربى، وكانت متابعتها للإخوان لصيقة، سواء للتعرف على ما ينتوون فعله فى هذه المرحلة أو تلك، أو فى محاولة تجميل صورة أمريكا عندما ترتكب -وكثيراً ما يحدث- جريمة من جرائمها الكبرى فى حق منطقتنا، أذكر على سبيل المثال فى نهاية الثمانينات من القرن الماضى أن زار السكرتير الأول للسفارة الأمريكية فى القاهرة مقر المركز العام للإخوان بهدف لقاء مصطفى مشهور، نائب المرشد العام آنذاك، وآثر الأخير أن يحضر اللقاء كاتب هذه السطور وعصام العريان، وأحسست خلال اللقاء أنه شبه تحقيق يجريه السكرتير مع «مشهور»، الأمر الذى استفزنى إلى درجة كبيرة ودفعنى إلى أن أقول: هل جئت لتحقق معنا، وماذا يهمك إن كنا سنخوض انتخابات البرلمان أم لا؟ رد قائلاً: نعم يهمنا، نحن لنا مصالح كبيرة فى مصر ونريد أن نطمئن أنه لا توجد أمامنا أية عوائق (!)

(٣) ذكرنا فى المقال الفائت أن الدكتور سعد الكتاتنى أيام أن كان رئيساً للكتلة البرلمانية، جاءنى فى يوم ٥ يوليو من عام ٢٠٠٩ وأخبرنى أنه استجاب للدعوة التى وجهت إليه من السفارة الأمريكية بالقاهرة وذلك لحضور حفل عيد الاستقلال الأمريكى الذى تقيمه السفارة فى ٤ يوليو من كل عام، وقد ذهب هو والنائبان سعد الحسينى وحازم فاروق، وأخبرنى أنه فوجئ بالسفير الإسرائيلى يتقدم إليه ويمد إليه يده لمصافحته، فاضطر إلى ذلك (!)، وقع علىَّ الخبر كالصاعقة، صحيح أن «الكتاتنى» حاول أن يتصنع الخجل، لكنى نظرت إليه بإيلام ممزوج بغضب، لم يذكر لى هل حدث بينهما كلام أم لا، بل لم يذكر شيئاً عما حدث بعد ذلك. فى كتابه (المرجع السابق)، يقول عبدالعظيم حماد، نقلاً عن الأستاذ حافظ أبوسعدة (المحامى والناشط الحقوقى)، إنه التقى فى إحدى حفلات السفارة الأمريكية بالقاهرة ريتشارد أرميتاج (نائب أولبرايت فى وزارة الخارجية)، وكان الدكتور سعد الكتاتنى يحضر هذا الحفل، وسرعان ما انسحب الاثنان إلى غرفة جانبية، حيث عقدا اجتماعاً استمر ساعة كاملة، وقد نشرت صحيفة «المصرى اليوم» هذا الخبر فى حينه، بعد أن توثقت من الأستاذ أبوسعدة من صحة المعلومة. هل أخبرنى الدكتور «الكتاتنى»، بذلك؟ لم يحدث (!!) فما رأى القارئ الكريم فى عضو مكتب إرشاد الجماعة ورئيس الكتلة البرلمانية، يخفى معلومات لها خصوصيتها -وخطورتها- عن النائب الأول للمرشد؟! لا شك أن «الكتاتنى» لم يفعل ذلك بدافع ذاتى، وإنما بتكليف من د. محمود عزت (وبعلم المرشد «عاكف» بطبيعة الحال)، فالمعروف عن «الكتاتنى» أنه لم يكن صاحب مبادرات، فضلاً عن قدراته المحدودة وكفاءته المتواضعة، هو فقط نموذج واضح لمبدأ «السمع والطاعة»، لذا يظل قابعاً فى الظل إلى أن يأتيه تكليف ممن بيدهم الأمر داخل الجماعة، ولعل هذا هو السبب الحقيقى وراء اختياره رئيساً لحزب الحرية والعدالة، ثم رئيساً لمجلس الشعب (!)

(٤) لقد ظللت أكثر من ٤٠ عاماً فى جماعة الإخوان، تقلبت فيها بين جميع المواقع إلى أن صرت عضواً بالمكتب التنفيذى عام ١٩٨٣، وعضواً بمكتب الإرشاد عام ١٩٨٥، ثم نائباً أول للمرشد عام ٢٠٠٤، وطوال هذه المدة الطويلة قابلت أصنافاً شتى من الإخوان؛ منهم الصادق المستقيم، والتقى الورع، ومنهم الكاذب المخادع، والمداهن المتسلق، كانت لدى قناعة أنه فى النهاية لا يصح إلا الصحيح، وأن الإنسان لا بد أن يعمل لله، لا ينتظر جزاء من أحد، كان الصنف الأول يؤسرنى بكريم أخلاقه وإنسانياته العالية، وكان الصنف الثانى يحزننى ويوجع قلبى، كانت الفترة التى توليت فيها منصب النائب الأول، والتى استمرت ٦ سنوات كاملة، صعبة على النفس للغاية، حيث أتاح لى منصبى الاطلاع على كثير مما كان يخفى علىّ، رأيت من المشاهد والمواقف -على مستوى الكبير والصغير- ما أثار استغرابى ودهشتى، بل شفقتى على الجماعة وتاريخها، بذلت جهداً كبيراً للإصلاح، لكنه قوبل بمقاومة شديدة، كنت أقول لنفسى: هل هذه هى الجماعة التى سوف تنهض بالمجتمع والأمة؟ وكانت الإجابة: مستحيل، ففاقد الشىء لا يعطيه، كنت أرى الجماعة مرشحة للسقوط، لكنها قبل أن تسقط كان لا بد لها أن تصعد، وتصعد سريعاً، إلى أعلى مكان حتى يكون سقوطها من حالق، (وللحديث بقية إن شاء الله).
تعليقات
اقرأ ايضا
الصحف