أعتقد أن أهم سبب لتكوين هيئات وطنية للإعلام والصحافة ـ هي بداية التنفيذ لبنود الدستور ـ بل سبب هذه البنود الدستورية هو "اقتصاد الإعلام والصحف".. الكارثة ـ إن صح التعبير ان الإعلام بكل فروعه مصدر ايراد لكل دول العالم ما عدا مصر!!! التي تمثل عبئا علي الحكومة.
لذلك أريد أن أروي للهيئات الثلاث قصة مدير تولي إصلاح اقتصاد كل صحف مصر.. المخضرمون أمثالي في هذه الهيئات إن وجدوا أو في دور الصحف يعرفونه جيداً.. اسمه "السيد الصادق أبو النجا".
هذا الـ "السيد الصادق أبو النجا" تولي إدارة كل صحف ومجلات مصر من نهاية الثلاثينيات إلي الستينيات.. ولهذا قصة..
عندما أنشأ المرحوم محمود أبو الفتح جريدة "المصري" من العدم عام 1937 واجه مصاعب مالية كشيء طبيعي.. كان المحور السياسي والدبلوماسي للأهرام في شارع مظلوم "الأهرام القديم" وعندما وجد ان أخباره تحتل الصفحة الأولي ومواضيعه السياسية تشغل صفحات كاملة.. ثم هناك سبب قومي وطني آخر وهو ان كل الصحف والمجلات العربية والأجنبية ملك لغير المصريين.. كلهم كانوا لبنانيين.. هنا قرر أن يصدر جريدة يومية تنافس الصحفيين اللبنانيين!!! فأصدر جريدة "المصري" وأسماها "المصري" لكي يجذب إليه قراء مصر.. ولكن.. كيف؟؟... الموضوع يحتاج لرأس مال طبعاً... أي مشروع في الدنيا يحتاج لرأسمال.. باع والده الشيخ أحمد أبو الفتح استاذ الشريعة الإسلامية بكلية الحقوق جامعة فؤاد الأول "اثني عشر فدانا" نصف ما يملكه في قرية الشهداء محافظة المنوفية.. ولكن كم كان يساوي أي فدان في ذلك الوقت!!!
.. كلام فارغ لا يفتح محل بقالة.. ولكن من حسن حظ الابن ان توقيت صدور الأعداد الأولي كان يناسب توقيت "نعرة" أو قل "موجة" قوية وطنية لتمصير كل فروع الاقتصاد.. كان هناك طلعت حرب وفرغلي وسيد يس وكثيرون نزلوا السوق لتمصير كل شيء.. كثرت الإعلانات في الجريدة.. ولم تكن كفاية.. نصح أحمد باشا عبود صديقه أبو الفتح بأن يتولي إدارة الجريدة شاب رائع اسمه السيد أبو النجا يعمل "مدرسا"!!! في كلية التجارة.. كتبه بها أفكار رائعة.... وقد كان.... حكاية الفسيخ والشربات حقيقة!!! علي يد هذا الشاب الذي اسمه "السيد أبو النجا"... نهضت "المصري" اقتصادياً حتي أصبحت أكبر جريدة في مصر توزيعا وماديا وتأثيرا في الرأي العام...
***
حكايات سيد أبو النجا لا حد لها...
سأختار حكاية واحدة...
كان الترام يسير في شارع قصر العيني ويمر أمام باب جريدة "المصري".. اتفق سيد ابو النجا مع إدارة الترام لعمل محطة أمام باب الجريدة.. وستتحمل الجريدة المصاريف.. رصيف ويافطة وعمود نور وخلافه.. ليه يا دكتور سيد.. لأن الكمساري سينادي بأعلي صوته مئات المرات "محطة المصري"!!!
* حكاية ثانية...
أعلن ان "المصري" صاحبة أعلي توزيع ستنشر إعلانات الوفيات مجاناً.. بدأت الإعلانات بالتدريج.. ثم في هذه الأثناء بالذات تمت مصادرة الجريدة.. ابريل ..1954 مساء نفس اليوم.. دق جرس باب شقة سيد أبو النجا في الزمالك فاستيقظوا من النوم في هذا اليوم الغريب بالنسبة له.. فقد صودرت الجريدة التي يتولي إدارتها.. وكانت المفاجأة انه وجد أمامه في هذا الوقت المتأخر مصطفي أمين.. ليدخل ويصر علي كتابة عقد ابتدائي بالعمل مديراً لدار أخبار اليوم..
بلا أية مبالغة.. صباح نفس اليوم كان الاستاذ هيكل يبحث عنه ليعمل معه مديراً للأهرام.. ففوجئ به يعمل قبلاً في أخبار اليوم.. تمر شهور وربما سنوات وبناءً علي تقرير كاذب اعتقل علي اثره سيد أبو النجا لمدة يوم واحد.. نعم.. وفي مساء نفس اليوم افرج عنه الأستاذ هيكل هو وعبدالله عبدالباري لينتقلا للعمل في الأهرام!!! بعد فترة... أصدر أنيس منصور مجلة "أكتوبر" وكانت مرتبطة اقتصادياً بدار المعارف "في الدور الأرضي" وكان أنيس يريد ضبط هذه الحكاية.. فطلب من سيد أبو النجا أن يعمل معه بأي مرتب يطلبه.. فقد كان مرتب الأهرام خيالياً.. رفض طبعا أبو النجا ولكن تليفونا من السادات جعله يعمل المستحيل بأن يربط بين العملين: الأهرام وأكتوبر!!! نحن نحتاج الآن لسيد أبو النجا آخر... فهل هذا ممكن؟؟!!