جمال سلطان
هذا الهوان الذي حاق ببلادنا ؟!
الفقر ليس عيبا ، ولكن القبول بالذل هو العيب ، وأن تقلل من قدر نفسك عيب آخر ، والتهرب من مسئولية القيادة عن كلا الأمرين : الفقر والذل عيب أكبر ، أقول هذا الكلام بمناسبة توالي الأحداث والمواقف التي تكشف عن تهميش مصر في المنطقة بصورة غير مسبوقة منذ تشكل المنطقة العربية ودولها الحديثة ، لم يحدث من قبل أن تصبح مصر في ذيل العالم العربي كما يحدث الآن ، لم يحدث من قبل أن إمارة خليجية صغيرة تمثل قيادة الأحداث ويكون دور مصر هو "التخديم" على تلك الزعامة الوهمية والغريبة ، لم يحدث من قبل أن تكون مراكز القرار الاستراتيجي لقضايا المنطقة ، حتى تلك المتعلقة بالأمن القومي المصري في صميمه ، موجودة في دول أخرى بعيدة ، بينما مصر تحضر في إطار الصورة فقط وليس في صميمها .
قبل حوالي شهرين ، رغبت مصر في أن تعقد اجتماعا في القاهرة بين العسكري الليبي المتقاعد خليفة حفتر الذي يقود ميليشيات غير معترف بها دوليا في شرق ليبيا وتصر مصر على أن تسميها الجيش الليبي ! ، وبين رئيس حكومة الوفاق الوطني المعترف بها دوليا في العاصمة طرابلس فايز السراج ، وقد حضر السراج ، كما حضر حفتر ، لكن الجنرال المتعجرف رفض أن يلتقي بالسراج أو يحترم الإرادة المصرية التي ترعاه عسكريا وتدريبيا واستخباراتيا ، باعتراف الرئيس عبد الفتاح السيسي نفسه ، وأحرج حفتر مصر وقيادتها وأجهزتها وغادر ، وقبل عدة أيام ، قامت الإمارات بدعوة الطرفين للاجتماع على أراضيها ، فهرول خليفة حفتر إلى أبو ظبي وذهب السراج ، وتم عقد الاجتماع برعاية نائب أمير أبو ظبي الشيخ محمد بن زايد ، وبعد الاتفاق والتفاصيل تمت دعوة الرئيس السيسي الذي سافر من القاهرة إلى أبو ظبي ـ مركز القرار !! ـ لكي يكمل الاجتماع ، منذ متى كان هذا هو مقام مصر وقيادتها ، منذ متى كان هذا هو وزن القاهرة ، منذ متى كانت القضية الليبية ـ خاصرة الأمن القومي المصري ـ شأن يعني الإمارات أكثر مما يعني مصر ، وتقرر فيه الإمارات وتنفذ مصر ، منذ متى وصلنا إلى مثل هذا الهوان .
والأسبوع الماضي ، قامت حركة حماس الفلسطينية بالإعلان عن تحولها الاستراتيجي التاريخي ، ومخاطبة الرأي العام العالمي بوثيقتها الجديدة ، فإذا بها تقوم بإعلانها من العاصمة القطرية الدوحة ، وليس من القاهرة ، الملف الفلسطيني على مدار التاريخ الحديث شأن مصري بالدرجة الأولى والثانية والتاسعة ، ويتصل جوهريا بأمن مصر القومي ومصالحها الحيوية في المنطقة ، والأجهزة المصرية لم تقطع أبدا صلاتها مع قيادة حماس ، لأن مصر هي الوسيط ، وهي اللاعب العربي الرئيس المفترض في هذا الملف ، بغض النظر عن تفاهات الإعلام الموالي وأكاذيبه ، فالأمور على الأرض تمضي في مسارات أخرى مختلفة ، وإن كانت الإدارة المصرية عانت من تناقضات الرؤية واضطرابها والرهانات غير الحكيمة على شخصيات فلسطينية مثيرة للجدل والظهور أحيانا بمظهر المنحاز إلى أطراف في الصراع الداخلي الفلسطيني ، ولكن ، أن تختار حماس الدولة الخليجية البعيدة لكي تعلن من هناك خططها ومشروعاتها المستقبلية ووثيقتها التي تحدد اختياراتها في الداخل الفلسطيني والمحيط العربي والعالمي ، وليس من القاهرة ، هو حدث لافت ودال ، وشديدة الخطورة ، على وزن مصر وقيمتها ودورها ، حتى في الملفات التي تمثل صلب أمنها القومي تاريخيا .
وأمس ، أعلن البيت الأبيض عن أول زيارة يقوم بها الرئيس الأمريكي الجديد دونالد ترامب في المنطقة العربية بعد توليه المنصب ، حيث قرر أن يزور السعودية وإسرائيل ـ فقط ـ في الأسبوع الأخير من مايو الحالي ، وذكرت مصادر إعلامية أن بعض قيادات الدول العربية سيسافرون إلى الرياض من أجل أن يحظوا بمقابلة ترامب ، وبطبيعة الحال من هؤلاء القيادة المصرية ، ولو فعلتها فستكون سابقة بالغة الإهانة ، أن يكون ترامب على بعد ساعة ونصف ويتجاهل دولة بحجم مصر ، ناهيك عن الأحاديث الضخمة الفخمة التي روجها الإعلام الرسمي عن إعجابه بالسيسي والكيمياء التي تربط بين الاثنين والأغاني الكثيرة من تلك الشاكلة ، فأن يتجاهل ترامب مصر ورئيسها ، ثم يطلب منه أن يأتي إليه في العاصمة السعودية لهو أمر مهين للغاية ، وأرجو أن لا يحدث ، وأن تعتذر القاهرة عن تلك الدعوة إذا حدثت .
مرت على مصر سنوات صعبة كثيرة ، وعقود من المعاناة ، وتداول حكمها كثيرون طوال تاريخها الحديث ، ولم تكن في يوم من تلكم الأيام بمثل هذا الهوان .