الأهرام
طه عبد العليم
دروس التنمية البشرية فى العالم
تتدهور الأحوال المعيشية لكل الشعوب عقب كل الثورات، كما تكشف خبرة العالم عبر الزمان والمكان، ولا يختلف الحال فى مصر عقب ثورتى 25 يناير و 30 يونيو. والأمر أن الشعوب تنتقل من نظام تداعى بسبب ركود وفشل وظلم وقهر ورِدة وتهديد النظم يدفع بالشعوب الى الثورة أملا فى بناء نظام جديد يتطلعون لأن يضمن لهم العيش الكريم ويحقق لهم التقدم الشامل، ويعزز العدل والحرية والأمن. لكن انهيار النظام القديم المتداعى لا ينهى الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية والسياسية والثقافية التى دفعت بالجماهير الى صناعة الثورة أو الانضمام الى قوى نخبوية أو متآمرة فجرتها.

ورغم مكاسب مباشرة تحققها الثورة دون ريب، وفى مقدمتها استعادة الشعوب ثقتها فى قدرتها على ممارسة حقها فى اختيار الحاكم والنظام، فانها تنتقل من العيش تحت سقف بيت خَرِب الى الطل أو العراء فى فترة الانتقال الى النظام الجديد المأمول. وتطول فترة الانتقال والمعاناة فى ظل مواجهات عادة ما تكون مريرة بسبب سعى قوى الثورة المضادة الى استعادة السلطة مستندة الى عوامل القوة التى مكنتها من الحكم قبل الثورة ومن دعم قوى خارجية دولية واقليمية تستهدف وأد الثورة التى عادة تصطدم بالمصالح التى تدافع عنها هذه القوى والأهداف التى تتوخاها.

بيد أن آلام فترة الانتقال تقل مع تسريع الانتقال الى نظام جديد يحقق تطلعات الشعوب، كم تزيد القدرة على تحملها اذا ما تمكن من تولى الحكم بعد الثورة من كسب قلوب وعقول الجماهير صانعة الثورة، وهو ما يمكن فقط إذا ما كان واضحا لهذه الجماهير أن ثمة رؤية واستراتيجية وسياسات وخطط وبرامج ومشروعات تعد بحياة أفضل وأكثر عدلا وانصافا. وقد تناولت فى مقالات عدة أن بوصلة نجاح الثورة، أى ثورة، هو تقدمها نحو بناء دولة المواطنة، دولة مواطنوها ذات السيادة المتقدمة، دولة كل مواطنيها، التى تحترم وتحمى وتعزز كل حقوق المواطنة، الى تتجسد فيما نص عليه الدستور والمواثيق الدولية من حقوق المواطن والإنسان الاقتصادية والاجتماعية والسياسية والمدنية والثقافية. وقد بينت فى مقالات أخرى أن التصنيع باعتباره رافعة التنمية الشاملة، وفى سياق استيعاب تحديدات عصر المعرفة واقتصاد العولمة.

وفى هذا السياق، ومع حديث الاصلاح الاقتصادى وقانون تشجيع الاستثمار أوجز هنا دروسا مهمة يقدمها تقرير التنمية البشرية 2016، وهو أحدث تقرير من سلسلة تقارير تصدر عن برنامج الأمم المتحدة الإنمائى منذ عام 1990. وأشير أولا، الى أن تناول تقرير التنمية البشرية الأول قد عرفها بأنها نهج تنموى محوره الإنسان، حوّل الخطاب الإنمائى من الثراء المادى إلى الرفاه البشري، ومن زيادة المداخيل إلى توسيع الإمكانات، ومن تحقيق النمو إلى توسيع الحريات. والتنمية البشرية فى سياق هذا النهج تعنى توسيع خيارات الإنسان، حيث تغدو الوسيلة والغاية؛ وحيث يغدو النمو الاقتصادى وسيلة مهمة لتحقيق التنمية البشرية، لكنه ليس الغاية، وإنما الغاية هى تنمية الإنسان عبر الارتقاء بإمكاناته، وتحسين حياته، وهى تنمية يصنعها البشر إذ يشاركون بفعالية فى كل ما يكوّن حياتهم. وفى قياس التنمية البشرية يدمج دليل التنمية البشرية المركّب أبعادها الثلاثة الأساسية؛ وهي: متوسط العمر المتوقع عند الميلاد والقدرة على عيش حياة مديدة وصحية، ومتوسط سنوات الدراسة والعدد المتوقع لسنوات الدراسة والقدرة على اكتساب المعرفة، ونصيب الفرد من الدخل القومى الإجمالى والقدرة على تحقيق مستوى معيشى لائق. ولقياس أكثر شمولاً للتنمية البشرية، يتضمن تقرير التنمية البشرية 2016 أربعة أدلّة مركّبة أخري، هي: دليل التنمية البشرية، الذى يقيس عدم المساواة، ودليل التنمية حسب النوع، الذى يقيس الفوارق بين المرأة والرجل، ودليل الفقر المتعدد الأبعاد، الذى يقيس أبعاد الفقر التى لا صلة لها بالدخل. وكما يشدد التقرير على أن احترام حقوق الإنسان هو حجر الأساس فى التنمية البشرية، ويعتبر الاستدامة قضية إنصاف فى التوزيع، سواء كان ضمن الجيل الواحد أم عبر الأجيال.

وثانيا، أنه خلال ربع القرن الماضى بات الإنسان يعيش حياة أطول، وانتُشلت أعداد متزايدة من الفقر المدقع، وانخفض عدد الذين يعانون من سوء التغذية، وأدى الإبداع والابتكار البشرى إلى ثورات تكنولوجية. وبالرغم من ارتفاع عدد سكان العالم بنحو مليارى نسمة بين عامى 1990 و2015، فقد انتُشل أكثر من مليار نسمة من براثن الفقر المدقع. بيد أن واحدا فى المائة من سكان العالم قد انفردوا بنحو 46 فى المائة من ثروة العالم. وقد أثرى التقدم حياة البشر لكن فوائده لم تأتِ متساوية للجميع، والأسوأ أن التقدم لم يكن للجميع. وقد خُصص تقرير التنمية البشرية لعام 2016 لموضوع التنمية البشرية للجميع، وينطلق من التحديات الماثلة أمام العالم والآمال التى تحدو بسكانه للتطلع إلى مستقبل أفضل. ومن هذه التحديات ما طال أمده مثل أوجه الحرمان، ومنها ما تعمّقت جذوره مثل أوجه عدم المساواة، ومنها ما استجد مثل التطرف والعنف. ويتناول التقرير الذين بقوا خارج التقدم فى التنمية البشرية، ويخلص الى أنّ من أُهمل هم الفقراء والمهمشون والمعرضون للمخاطر، وأن الحرمان وعدم المساواة، والتمييز والإقصاء، والأعراف والقيم الاجتماعية، والتحيّز والتعصب، من أهم الحواجز التى تحول دون تعميم التنمية. ومن ذلك حرمان النساء من فرص التقدم والتمكين، وتهميش المصابين بشكل من أشكال الإعاقة، والمعرضة لتغيّر المناخ وكوارث طبيعية وموجات جفاف وانعدام الأمن الغذائي. وينذر بأن الحرمان الذى تعانيه الأجيال الحاضرة قد ينتقل إلى أجيال المستقبل، حيث إن مستوى تعليم الأهل وصحتهم ودخلهم له تأثير بالغ على فرص أطفالهم.

وبين ما يعوق تعميم التنمية البشرية يبرز التقرير الانكفاء على الهويات الذاتية، وعدم قبول الآخر، والتمييز فى القوانين، والإقصاء فى الأعراف الاجتماعية، والخلل فى المشاركة السياسية، وعدم المساواة فى توزيع الفرص، وهو ما يتطلب تغليب ثقافة التعاطف، وقبول الآخر، وتوطيد الالتزام الأخلاقى بالعدالة.
تعليقات
اقرأ ايضا
الصحف