الطريق إلي الجحيم مفروش بالنوايا الحسنة.. أظن أن هذا ما تفعله الهيئة الوطنية للصحافة التي جاءت لإنقاذ الصحف القومية ولكنها الآن تضع "شاهد القبر" رسمياً علي أبواب كل المؤسسات الصحفية.
عندما أُعلن تشكيل الهيئة الوطنية للصحافة تشكك البعض - وأنا منهم - في قدرة الهيئة علي أداء المهمة الصعبة بهذا التشكيل.. صحيح أن من الأعضاء أساتذة نتعلم منهم وتضم زملاء مشهود لهم بالكفاءة ولكنها تضم أيضا شخوصاً اكتسبوا مواقعهم بمهارات خاصة لا علاقة لها بمهنة الصحافة.
كان القرار الأول للهيئة تجريد رؤساء مجالس الإدارات ورؤساء التحرير من معظم الصلاحيات.. ليس من حقهم الفصل أو التعيين.. ليس من سلطاتهم المكافأة أو العقاب.. ليس لديهم حرية اتخاذ قرار حقيقي.. كل المتاح لهم تسيير الأمور.
خلق هذا القرار نوعا من الفوضي داخل المؤسسات الصحفية وبدأت عملية تصفية الحسابات.. خرجت الفئران من الشقوق لتدعي الشجاعة.. أدار المنافقون ظهورهم للمسئولين الحاليين وأسرعوا للبحث عن الزعامات الجديدة.. وانطلقت مرحلة تقسيم الميراث حتي قبل دفن الجثة.
تصورنا أن الهيئة الوطنية للصحافة ستعلن فورا التعيينات الجديدة لسد الفراغ الذي حدث في المؤسسات الصحفية بعد تجريد رؤساء مجالس الإدارات ورؤساء التحرير من الصلاحيات.. لكن مر ما يقرب من شهر ولاتزال الهيئة الوطنية للصحافة تفكر وتفكر.. وتفكر.
طول فترة الانتظار أدي إلي حروب داخلية وانتشار الشائعات والتفسيرات والتكهنات.. الهيئة الوطنية للصحافة تقول إنها تتأني في اختيار القيادات الجديدة.. بينما يري البعض أن التأخير متعمد للحصول علي أكبر قدر من التنازلات من الطامحين للمنصب والساعين إلي النفوذ والباحثين عن مقاعد السلطة.
البعض الآخر يقول إن هناك أسماء مفروضة علي الهيئة وبعض الأعضاء يعترضون عليها ولا توجد طريقة للتوصل إلي إجماع.. في حين ذهب آخرون إلي أن الهيئة في انتظار الكشف النهائي الذي سيصل إليها مختوما بالشمع الأحمر.
الغريب أنه بعد كل هذا الانتظار خرجت الهيئة الوطنية للصحافة لتعلن أنها ليس فقط ستختار رؤساء مجالس الإدارات ورؤساء التحرير ولكن ستختار أيضا مدراء التحرير ورؤساء الأقسام!!!
لم يتبق إلا أن تختار الهيئة عمال البوفيه ومسئولي الأسانسير وحراس الأمن.. ويمكنها بالمرة أن تكتب المانشيتات وتوزعها علي الجرائد وتراجع المقالات وتصحح الأخطاء الإملائية وتعيد صياغة الموضوعات.
هل تريدون رئيس تحرير أم خيال مآتة؟ لماذا لا تتركوه يختار فريق العمل الذي يتناسب مع أفكاره ثم تحاسبوه علي النتائج؟ هل مهمتكم وضع الضوابط والخطوط العامة أم التدخل في أدق التفاصيل اليومية؟
لا نريد رئيس تحرير يطلب الإذن من الهيئة الوطنية للصحافة قبل أن يذهب إلي الحمام.. لا نريد رئيس تحرير يتوضأ قبل أن يصافح أعضاء الهيئة.. لا نريد رئيس تحرير يبحث عن استرضاء الهيئة وليس إرضاء القارئ.. نريد صحافة حقيقية وليس صحافة "تسليم مفتاح"!