الأهرام
يسرى عبد الله
اختيار القيادات الجامعية
لا يمكن لبلد أن ينهض بحق، ويضع نفسه فى مصاف الدول المتقدمة دون أن يتعامل مع الجامعة بوصفها أداته الفاعلة لتشكيل عقله العام، وتكوين نخبته الفاعلة، وصوته الرئيسى صوب غد أفضل.

تطرح الأمم فى اللحظات الفارقة من عمرها سؤال الجامعة بوصفه سؤالا عن المستقبل، وقد طرحه الفرنسيون من قبل بعد أن خرجت بلادهم مهشمة من الحرب العالمية الثانية عقب الاحتلال النازى لها، حيث جمع شارل ديجول مستشاريه حينها وسألهم سؤالا دالا: كيف حال الجامعة؟ وحين ردوا بخير، قال جملته الشهيرة: فرنسا إذن بخير.

وتكشف أدبيات البحث العلمى والسباق الأممى اللاهث صوب التقدم عن وقائع كاشفة، لعل من أبرزها حالة الفزع التى انتابت الأمريكيين عقب إطلاق الاتحاد السوفيتى أول قمر صناعي “سبوتنك 1” فى العام 1957، تلك الحالة التى دفعتهم لتعديل ممنهج فى تعليم الرياضيات فى الجامعات، وظلت هذه الحالة من التأهب العلمى مستمرة وصولا إلى التقرير الأمريكى الأشهر فى العام 1983، والذى اتخذ عنوانا صادما للكثيرين وقتها، حيث حمل عنوان “أمة فى خطر”، فكان بمنزلة صيحة تحذير مدوية تجاه كارثة تردى وتأخر الأجهزة التعليمية والبحثية.

وتعد دراسة التجارب الناجحة للأمم المتقدمة أمرا حيويا بالنسبة لنا، فقد درست أمريكا التجربة اليابانية البالغة التقدم فى البحث العلمى والتعليم فى السنوات الأخيرة، وسيصبح الأمر أكثر أهمية ونحن نتحدث عن بلد ناهض مثل مصر، تحتل جامعاته وضعا مخزيا فى التصنيف الدولى للجامعات، وبما يعنى أن ثمة حاجة ملحة إلى مجاوزة الواقع المتعثر للجامعة المصرية، التى لم تزل تحمل ثقلا تاريخيا فى عالمنا العربي، وراهنا مأزوما فى الوقت نفسه.

ولا شك أن ثمة محددات مهمة ومختلفة تتعلق بتطوير التعليم الجامعى وأطر البحث العلمي، تبدأ من خلق المناخ العام الدافع لاستلهام فكرة العلم فى حياتنا اليومية، وتدعيمها بوصفها طوق نجاة فى مواجهة التصورات الخرافية عن العالم، وهذا المناخ العام الذى يجب أن تعمل الجامعات على المشاركة فى خلقه سيمثل الإطار الجامع لقيم التقدم التى يجب أن تمثلها الجامعة بوصفها بناء معرفيا بالأساس، ينمى قيم العقل النقدي، ويكرس لخيال جديد، ووعى منهجي.

ولا شك أيضا أن خلق البيئة العلمية المواتية المحفزة على الإبداع والابتكار، من الآليات المهمة للخروج من الوضع البائس للجامعات المصرية، غير أن الاختيار النزيه للقيادات الجامعية يظل جوهرا فى هذا السياق جميعه، فالتاريخ الأكاديمى يشير إلى الجهود المؤثرة التى بذلها أفراد مخلصون لفكرتى العلم والتجديد فى الانتقال بالجامعة إلى وضع أفضل، ومن ثم سيصبح مهما للغاية أن تراعى الدولة المصرية فى اختياراتها المقبلة للقيادات الجامعية مجموعة من المعايير الموضوعية التى تختص بقيم النزاهة والشفافية وتغليب أهل الكفاءة على أهل الثقة، فليس مقبولا ولا معقولا على الإطلاق أن يرشح من ثبت فى حقهم وقائع فساد، وصدرت ضدهم أحكام قضائية نهائية تتعلق بتعسفهم فى استخدام السلطة الإدارية المخولة إليهم، وسيكون عبثيا للغاية أن نجد الوجوه التى تورطت فى مثل هذه الخطايا وتعاملت مع السلطة المطلقة بوصفها مفسدة مطلقة، حاضرة من جديد فى مشهد يتشكل الآن، وتوليه الدولة أهمية كبيرة، هذا إن أردنا الإصلاح الحقيقي، أما إذا ارتضينا أن نظل فى ذيل الجامعات ومن ثم فى ذيل الأمم الناهضة، فلا شك أن رعبا أكثر من هذا سوف يجيء!.

إن التواطؤ الذى يسكن بعض جنبات الجامعات، حيث يتحالف الفساد مع الرجعية، والوعى القديم يريد الهيمنة على واقع متغير، ومتحول باستمرار، ومن ثم تكون المفارقة بين عقل يمنح نفسه إلى الماضى بتخلفه وفساده وآلياته المهترئة، وعالم جديد يحتاج إعمالا لقيم الشفافية والعلم والتنوير.

وبعد.. فى لحظة فارقة من عمر الأمة المصرية وفى ظل تحديات إقليمية ودولية تواجه صانع القرار المصري، سيصبح إصلاح الجامعة خطوة مركزية لإصلاح مجتمعى جاد وحقيقي، وسيصبح من الحتمى حينها ربط الجامعة بالمجتمع وتحولاته، وجعلها رافعة للتقدم، تكريسا لقيم نبيلة غائبة، ومجابهة لقيم رديئة حاضرة، وهذا لن يتحقق إلا باختيارات نزيهة وشفافة للقيادات الجامعية تعلى من المصلحة الوطنية، عبر نظرتها إلى الجامعة بوصفها مصنعا للعقل المصري، ورافدا مهما من روافد تحرير الوعى الإنسانى وجعله أكثر استنارة وعقلانية وتقدما، وبما يمثل قيمة مضافة إلى متن الدولة المصرية وجماهير شعبها التى تستحق واقعا أفضل، وبما يعنى أيضا حتمية أن تلعب الجامعة دورا مركزيا فى خلق سياق جديد، يتحول فيه النزوع العلمى فى التفكير إلى حالة مجتمعية تتجاوز الأسوار الأكاديمية العتيقة، وتصل إلى ناسنا فى القرى والنجوع المصرية، فتنقذهم من براثن الجهل والتطرف والنظرة الخرافية للعالم والأشياء.
تعليقات
اقرأ ايضا
الصحف