الأخبار
محمد السعدنى
قيود الوهم والبروباجاندا الرخيصة
أعطني حريتي أطلق يديّ
إنني أعطيت ما استبقيت شيا
آه من قيدك أدمي معصمي
لِمَ أبقيه ؟ وما أبقي عليا
ما احتفاظي بعهود لم تصنها؟
وإلام الأسر والدنيا لديا...
هكذا كانت تصدح أم كلثوم برائعة الأطلال لإبراهيم ناجي ورياض السنباطي بينما أتطلع لبحر الاسكندرية الغاضب كما كل السكندريين علي أحوالها وغرائب محيطنا السياسي العام. استوقفتني الكلمات عن ذلك القيد الذي أدمي معصمها وتساؤلها: لمَ تبقيه وهو لم يبق عليها؟ رغم أنها أعطت الكثير بما لم تستبق معه لنفسها شيا واحتفظت بوعود تبرها وهو لم يصنها ولا يعطيها حريتها ويطلق يديها فإلام الأسر والدنيا لديها.. لعلها حبست نفسها طواعية في هذا القيد الوهمي الذي كان بمقدورها التحلل منه توقفت وأمعنت التفكير وسرحت طويلاً بعد أن رفعت »إبرة البيك آب الكلاسيك»‬ الذي أهدنيه عصام السعدني من إحدي رحلاته في »‬بادوفا الإيطالية» وأوقفت إسطوانة »‬صوت القاهرة» التي ماعادت تنتج الفن الراقي كما كانت أيام عبد الناصر.
قادني تفكيري إلي قصة تراثية - مشيها تراثية - فلعلها كانت من مفارقات و»افتكاسات» أبا الغصن نصر الدين بن دجين الفزاري الملقب بجحا العربي أو لعله جحا المصري أو أياً من جحوات تاريخ الإنسانية القديم. جحا وحماره حواديت عبقرية ربما اخترعتها قريحة الناس لتقدم من خلالها فكاهة ساخرة من مفارقات الحياة والحكم والقصور العالية. ولعلك واجد في تاريخ الاجتماع والعمران لمعظم بلاد الحضارات القديمة جحاها ستجده في الدولة الأموية واسطنبول والأناضول وروما وقونية تحت حكم المغول وبغداد وإيران وأرمينيا وبلغاريا وكردستان ويوغوسلافيا والهند والصين وأينما وجدت ديكتاتوريات سلطوية وحكام مستبدون ربطوا الناس ودجنوهم بقيود وهمية أدمت معاصمهم ونغصت عليهم حيواتهم ومعايشهم.
ولقد طفرت إلي ذهني واحدة من هذه الحكايا لعلها لجحا قديم أو ربما جديد - لافارق هنا - إلا دلالتها ومغزاها. تقول الحكاية: أن فلاحاً ذهب لجحا يطلب منه حبلاً لكي يربط حماره أمام البيت. لم يكن لدي جحا حبل لكنه أعطي الفلاح نصيحته الماضية العجيبة قائلاً: عليك أن توهم الحمار بأنك تلف عنقه بالقيد وتظاهر بأنك تربطه وسوف لن يبرح مكانه هكذا فعلت مرات عديدة مع حماري الذي انطلت عليه الحيلة وخالت عليه الكذبة واستمرأ القيد الوهمي واستجاب له.عمل الفلّاح بنصيحة جحا وفي صباح اليوم التالي وجد حماره كما تركه في مكانه تماماً!ربت الفلاح علي حماره ليذهب به للحقل لكن الحمار رفض التزحزح من مكانه حاول الرجل بكل قوته أن يحرك الحمار ولكن دون جدوي ما أصابه باليأس والإنفعال فعادلجحا يطلب النصيحة فسأله: »‬هل تظاهرت للحمار بأنك تحل رباطه؟» أجاب الفلاح باستغراب:»ليس هناك رباط».
وهنا أجابه جحا: »‬هذا بالنسبة لك أما بالنسبة للحمار فالحبل موجود» عاد الرجل وتظاهر بأنه يفك الحبل فتحرك معه الحمار دون أدني مقاومة.
هنا لمعت في مخيلتي الفكرة وارتسمت عندي تلك المقابلة المجحفة بين قيد »‬الأطلال» وقيد »‬حمار جحا». ماذا أريد أن أقول؟ ببساطة مايحدث في مملكة الحيوان قد يحدث مثله في عالم الإنسان فلا يأخذنا الخبثاء والمتنطعون إلي حيث لانريد ولا نقصد بالمقابلة بين الحمار والإنسان والحيوان والأمم والشعوب غاية الأمر أن الناس ربما يقعون تحت طائلة قناعات وهمية تقيد عقولهم وتثقل هممهم وتستولي علي وجدانهم فتجلب لهم اليأس والاحباط والقعود ربما بحكم عادات خاطئة أو وعي مفقود أو بفعل فاعل يكرس في مخيلاتهم كل يوم أن ليس في الإمكان أبدع مما كان وتغسل الحكومة يدها من المواطن المطحون بينما تواصل انحيازها للرأسمالية المتوحشة بالتدليل والإعفاءات الضريبية والسياسات المالية والقوانين التي يسنها النواب من التجار ورجال الأعمال لصالحهم وما قانون الاستثمار الجديد ببعيد حين يعيد المناطق الحرة الخاصة التي تضيع علي الدولة حصيلة مليارات الضرائب والجمارك التي تصب في جيوبهم بينما البروباجندا بغباء تضر النظام بأكثر مما تساعده حين تسلب مسامع الشعب وتقض ضمائر الناس بأن هذا »‬من أجلك أنت» بينما قيد المواطن أدمي معصمه ولا أبقي عليه وهو الذي أعطي ما استبقي لنفسه شيا.. هل يعي إعلام البروباجندا الرخيصة جريمة أفعاله إذ يكرس في أذهان الناس ليل نهار أنهم لايعدو أن يكونوا إلا حمار جحا في قيده الوهمي وأن أمة تتوارث أجيالها الحديث عن ضعف الدولة وخرابات مؤسساتها وعدم كفاءة مسئوليها ومفارقة سياساتها للمنطق والعقل والواجب لايمكن إلا أن تبقي متأخرة ومفككة يائسة حتي تفك قيودها وتنطلق من أوهامها. هل يتصور إعلام البروباجندا الرخيصة أن الناس وهم يطالبونهم بالصبر والتحمل وشظف العيش وحياة الكفاف لا يعرفون الملايين التي يتقاضاها تايكونات الإعلام وباروناته ومايرفلون فيه من نعيم مقيم ورفاهة فاجرة؟.
ياسادة فكوا قيود الناس واعطوهم الأمل وخففوا عليهم وحرروهم من أوهام الخوف ودعاوي الفقر والضعف وقلة ذات اليد فمصر أبداً لاتموت ولا تعدم السبل لحياة أفضل ولا تصموا الدولة بالهوان وأنها عرضة للتفكك ولا تقارنوا مصر بالعراق واليمن وسوريا وليبيا وإذا كان لابد فلتقارنوها بألمانيا واليابان بعد الحرب العالمية اطلقوا طاقات الناس وحققوا لهم بعضاً من الاحترام والتقدير.
مصر بخير رغم كل دعاوي المتخلفين والأوغاد.
تعليقات
اقرأ ايضا
الصحف