أحياناً نطالع بينما نقلّب فى صحف الصباح أحد الأعمدة أو المقالات وقد تضمّن هجوماً حاداً على أحد المسؤولين وانتقاداً شديداً لأدائه وسياساته، وهذا بطبيعة الحال من شأنه أن يجعل توقعاتنا ترتفع بأن يكمل الكاتب فى الأيام التالية ما بدأ ويمضى فى حملة تكشف فساد هذا المسؤول وإهمال مرؤوسيه.. لكن يفاجئنا فى اليوم التالى مباشرة، وقبل أن يجف حبر المقال الأول، أن نقرأ لنفس الكاتب ما يمثل انسحاباً منظماً وتراجعاً ناعماً عن كل ما ذكره فى عموده العنيف بالأمس.. هنا يذهب خيال القراء على الفور إلى أن الكاتب قد تلقى إغراء على شكل رشوة أو هدية أسكتته، وما أكثر الوسائل التى تستخدم لإطعام الفم حتى تنكسر العين.. أو ربما يتصور القراء أن الكاتب تلقى تهديداً أخافه وجعله يتراجع حتى لا يضع نفسه على خط النار مع من لا يرحمون. لكن الحقيقة أن هناك أسباباً أخرى لا تتعلق بالوعد أو بالوعيد تكون فى أحيان كثيرة سبباً فى تبدل المواقف وتحول الكاتب من خصم موضوعى إلى عازف فى جوقة المسؤول، أو على الأقل ساكت على فساده. من أهم هذه الأسباب أن يتلقى مكالمة شخصية من المسؤول! مجرد مكالمة تليفونية كان السيد المسؤول فيها رقيقاً، ودوداً، متبسطاً جعلت الكاتب يخجل من نفسه ويتراجع عن انتقاد المسؤول المهذب، وكأن المشكلة كانت مع هذا المسؤول أنه قليل الأدب وليس أنه فاسد!.
غير أن الخطير فى الأمر أن هذه الحالة موجودة أيضاً لدى الحكام من ملوك ورؤساء فى عالمنا العربى، وإليها- إلى جانب عوامل أخرى- يعود الإخفاق وضياع الحقوق والتنازلات التى يقدمونها على حسابنا. ويمكنك إذا تطلعت مثلاً إلى أبو مازن وهو يلتقى الرئيس الأمريكى أن ترى ملامح الغبطة والسعادة على وجهه لأن الرجل يسلم عليه ويتحدث معه بلطف، بينما وسائل الإعلام الأمريكية تقوم بامتداحه وتصفه بالصديق المعتدل.. يمكنك هنا أن تتصور نوع المفاوضات التى تجرى فى ظل هذا التأثير ونتائجها الكارثية، خاصة إذا صاحبها التقاط الصور فى المكتب البيضاوى أثناء حوار ضاحك!.
الذى أقصده أن البيئة السياسية والاجتماعية لدينا لا تساعد على الصلابة فى المواقف المبدئية، لأن الناس مازالوا يتهيبون من المناصب وفى الوقت نفسه لا يحسنون الظن بشاغليها، ولديهم ميراث طويل من الظلم والتمييز الذى تعرضوا له على يد السلطة التى لم تنصفهم أبداً، وقد أفقدهم هذا كثيراً من عوامل الثقة بالنفس وبالمجتمع الذى لا يعتقدون فى كونه ظهيراً يُعتمد عليه إذا ما احتاجوا لعونه فى مقاومة الضغوط. لذلك فمن السهل أن يشعروا بالتحرج والخجل مما لا يستوجب أى حرج أو خجل (ولا أتحدث عن الرشوة وشراء الضمير فهذا حديث آخر) من السهل أن تلين الإرادة وتضعف الصلابة عند سماع كلمة طيبة ممن لا نتوقع منهم أى خير، وتكون نتيجة طبيعية أن نخلط بين أداء الشخص لدوره العام وبين صفاته الشخصية وحياته الخاصة، فنمتدح الوزير الجاهل لمجرد أنه يتحدث معنا بذوق وأدب، ونهلل للمحافظ الأونطجى إذا دعانا لافتتاح مشروع سبق افتتاحه من قبل مرتين!.