المساء
مؤمن الهباء
أخلاق القرية
تغيرت القرية المصرية كثيراً.. انتقلت إليها ـ للأسف ـ أمراض عشوائيات المدينة.. ليس فقط في المباني الخرسانية والمقاهي والتعدي علي حرم الشوارع.. والأخطر من ذلك العادات والتقاليد والأخلاق التي جاءت مع الدش والفضائيات والأفلام والمسلسلات لتقضي علي عادات وتقاليد وأخلاق القرية التي كنا نتباهي بها علي أهل المدينة.
في الأسبوع الماضي توفي فجأة صديقي المرحوم الأستاذ محمد السداوي مدير عام البنك الأهلي.. كان قد خرج العام الماضي إلي المعاش وهو في كامل صحته ولياقته البدنية والنفسية بعد عمر طويل من العمل الجاد والنجاح المتواصل.. فقد كان ـ رحمه الله ـ نموذجاً للقيادي المنضبط الشريف المحبوب من رؤسائه ومرؤوسيه وكل من يتعامل معه.. مشهوداً له بالتفاني والاستقامة والنزاهة.. وقبل أن يتوفي بيومين اثنين كان في وداع ابن عم له إلي مثواه الأخير.. وبعد أن انتهي من تلقي العزاء في القرية وعاد إلي بيته بالقاهرة أحس بحالة من الإرهاق الشديد لم تستمر طويلاً.. فسرعان ما أسلم روحه الطيبة المطمئنة إلي بارئها.
وكعادة أبناء القرية جاءت أسرته بجثمانه إلي قريته ليدفن بجوار أبويه وأهله.. ومن لم يمت في قريته لا يحس به أحد كما يقولون.. القرية تخرج كلها لوداع فقيدها في مشهد مهيب لا تعرفه المدن.. يزدحم المسجد بالمصلين.. ويزدحم السرادق بالمعزين.. ويحرص أهل القرية جميعاً علي أداء واجب العزاء.. صغاراً وكباراً.. فقد تربوا جميعاً علي أن الصلاة علي الميت واجب والعزاء واجب.. لا يدعي لهما.. ولا يمكن ولا يجوز التخلف عنهما مهما كانت الأعذار.. قد لا تذهب إلي حفل العرس ويقبل عذرك أما واجب العزاء فلا عذر له.. والشاب لا يصير رجلاً إلا إذا ذهب إلي الجنائز ووقف بين الرجال في سرادقات العزاء.
في المدينة تستأجر القاعات الفخيمة للعزاء.. وتذهب فلا تجد إلا أقرب المقربين من الدرجة الأولي والثانية والمعارف والزملاء ممن لايزال عندهم شيء من الوفاء في زمن عز فيه الوفاء.. وسادت فيه النذالة والوضاعة وقلة الأصل ونكران الجميل حتي للمتوفين.. في بعض العزاءات لم يحضر لأداء الواجب في الحامدية الشاذلية إلا عدد ضئيل جداً لا يتجاوز عدد أصابع اليدين.. وأهل الميت يتحسرون علي ميتهم وعلي أنفسهم.
ذهبت لأداء واجب العزاء في صديقي السداوي بقريته.. كان السرادق مزدحماً بالمعزين.. لا تكاد تجد فيه مكاناً لقدم.. والأهل يقفون بالعشرات يصافحون القادمين والمغادرين بحفاوة وامتنان.. وعلي كل الألسنة عبارة متوارثة "شكر الله سعيكم" في مشهد يجسد التضامن الحقيقي بين الناس في الملمات.. هناك من جاءوا من القري والمدن المجاورة وهناك من جاءوا من القاهرة.. فالفقيد العزيز يستحق هذا الحشد من المحبين الذين ارتبط بهم في حياته.. وترك في داخل كل منهم بصمة لا تمحي.
لم يفسد هذا المشهد المهيب إلا تصرف دخيل علي أخلاق القرية.. لأول مرة أصدم به مما أحزنني حزناً شديداً.. فقبل أن ينتهي العزاء فوجئنا بأصوات ألعاب نارية تطلق في الهواء من مكان قريب.. ثم أصوات موسيقي وضجيج عرس بينما صوت قارئ القرآن يتلو آيات الله البينات.
يا إلهي.. كيف تغيرت أخلاق القرية إلي هذا الحد؟.. كيف فقدت القرية المصرية أجمل ما كانت تتميز به؟
تعليقات
اقرأ ايضا
الصحف