الأخبار
عبد الحليم قنديل
جيش الأسري
لا شيء يمثل الشعب الفلسطيني في الوقت الراهن أفضل من الأسري في سجون الاحتلال، عددهم يزيد علي الستة آلاف، وهم موزعون علي كافة فئات الشعب الفلسطيني، من الفصائل ومن غيرها، ومن الشيوخ والشباب والنساء حتي الأطفال، وهم يخوضون إضراب "الأمعاء الخاوية" ببسالة وصمود منقطع النظير، وبشعارهم المدوي "الموت ولا الركوع".
وقد لا تكون من قيمة كبيرة لوثيقة حماس، ولا لمناورات عباس، فذلك كله خارج المجري الفعلي لكفاح الشعب الفلسطيني، والذي لا يمثله بحق اليوم سوي انتفاضة شباب السكاكين، وسوي إضراب الأسري الذي يقوده مروان البرغوثي المحكوم عليه بعشرات السنوات سجنا، والذي تحول في قيمته الرمزية إلي "مانديلا" الفلسطينيين، صحيح أن البرغوثي من قادة حركة فتح، ويفوز برغم أسره بأعلي الأصوات دائما في انتخابات اللجنة المركزية لفتح، لكنه يمثل خيارا آخر مختلفا عن محمود عباس، وعن محمد دحلان الذي طرده عباس صوريا من "فتح"، لكنه يستند إلي قاعدة واسعة نسبيا من متمولي فتح في غزة بالذات، ويحظي بدعم دول عربية، تسعي لجعله خليفة لعباس في قيادة فتح، بينما لا فارق جوهريا بين عباس ودحلان، فكلاهما أقرب إلي معني جماعة التفاهم المفضلة لدي إسرائيل، بينما مروان البرغوثي هو قائد فتح الذي تخشي إسرائيل خطره، فقد كان مسئولا عن قيادة تنظيم فتح السري زمن الانتفاضة، وكان هو المنظم المختار من ياسر عرفات لقيادة "كتائب شهداء الأقصي"، وغيرها من المجموعات المسلحة القريبة من فتح، ومن وقت أن اعتقلته وسجنته إسرائيل، تكفل عباس بالدور الباقي من مسلسل تصفية منظمات البرغوثي، إما بالتنسيق والتعاون الأمني المتصل مع إسرائيل، وخنق المجموعات الفدائية بالمطاردة والتفكيك، أو بالإغراءات الوظيفية في أطر ما تسمي بالسلطة الفلسطينية، وهي سلطة بلا سلطة، وأقرب إلي قبضة هواء، لا تملك من أمرها شيئا، ولا يتنقل مسئولوها، بمن فيهم عباس، ولا يرفعون رجلا عن رجل، بغير إذن مباشر مسبق من سلطات الاحتلال الإسرائيلي، مع مواصلة دورهم المريب في إدانة واستنكار أي عمل فدائي فلسطيني، والاستمرار في تلقي المعونات المالية الأمريكية والأوروبية وبعض العربية، والصرف منها علي مخصصات ورواتب ضخمة لأزلام السلطة وبارونات فتح، و"برو العتب" بخوض معارك دبلوماسية لا تغني ولا تسمن، ولا تقيم دولة فلسطينية إلا علي الورق فقط.
وفي مقابل الوجه المعتم لما تسمي بالسلطة الفلسطينية، وجولات صراع عباس وحماس علي التسلط في رام الله وغزة، فلا يبقي سوي الوجه المضئ لمروان البرغوثي وجيش الأسري، فهم يمثلون وحدهم طليعة الشعب الفلسطيني الأعظم قدرا وتأثيرا، وهم القادة الأسري للشعب الأسير، وقد حولوا عذابهم إلي سوط تعذيب لإسرائيل نفسها، وإلي صوت نقي لعذاب الشعب الفلسطيني وكفاحه معا، فليس بوسع أحد أن يزايد عليهم، ولا علي تضحياتهم الجليلة، وقد حولوا السجون إلي جبهات مواجهة متقدمة، وبددوا عتمة الزنازين، وجعلوا سجانيهم في وضع المساجين، وكشفوا الوجه القمعي القمئ لكيان الاغتصاب الإسرائيلي، الذي أصابه الرعب من تكرار حالات إضراب الأسري الفلسطينيين عن تناول الطعام، وصمودهم الأسطوري حتي حافة الموت، واضطرار إسرائيل تحت الضغط المكثف لإخلاء سبيل بعضهم، ثم تصاعدت الموجة إلي ذروة عالية هذه المرة، فقد بدأ القائد مروان البرغوثي إضرابه قبل أسابيع، وسرعان ما انضم إليه مئات من الأسري، زادوا إلي الآلاف فيما بعد، وأعلنت حركتا "حماس" و"الجهاد الإسلامي" انضمام أسراهما إلي إضراب القائد الفتحاوي، وهو ما جعل الشعب الفلسطيني يدا واحدة، لا تعرف التفرقة القبيحة بين القدس والضفة وغزة، ولا الخلافات علي المعابر والرواتب وامدادات الكهرباء، وجري تنظيم فعاليات ومسيرات وإضرابات عامة، جددت حيوية الشعب الفلسطيني، وجعلته صفوفا متراصة داعمة لأسراه البواسل، وصارت صرخة "الجوع ولا الركوع" هي شعار الفلسطينيين الأبرز، في الوطن المحتل بكامله، وفي منافي الشتات، وفي عواصم أوروبية كبري، يجد الفلسطينيون في ديمقراطيتها مجالات للتنفس والحركة والتأثير، لا يجدونها في عواصم عربية محكومة بالقمع وسلطات الاستسلام لطغيان إسرائيل.
نعم، لا صوت يصح له أن يعلو علي صوت أسري الشعب الفلسطيني، فهم وحدهم يحركون المياه الراكدة، ويعيدون فرض قضية فلسطين علي جدول أعمال العالم، ويستنقذونها من قبور النسيان، ويحشرون الاحتلال الإسرائيلي في الزاوية الحرجة، ويكشفون حقيقته الوحشية الإرهابية، ويبدأون فصلا جديدا من سيرة كفاح فلسطيني لم ينقطع يوما، وهو منتصر حتما ولو طال المدي، ولو كره المستسلمون المتلفعون بعباءة السلام المذل.
تعليقات
اقرأ ايضا
الصحف