وفاء الصعيدى
أبى أخبرنى كيف أتحمل فراقك
يظل قلبى رافضاً أن يرثيك، تظل عينى رافضة أن تصدق أن هذا المشهد الجنائزى المهول هو مشهدك، تظل أذنى رافضة أن تتقبّل سماع اسمك فى مكبّر صوت «مزعج» يجوب فى كل شارع وحارة ينادى اسمك يا أبى يخبرهم أنك رحلت!
كنت دائماً العقل المفكر والمدبر لنا، والصديق المجيب عن أصعب الأسئلة، ومن هنا، هل لك أن تجيب لى عن أسئلة قلبى ولسانى لا يتوقفان أبداً عن ترديدها: «كيف لنفسى أن تصدق حلول اليوم الذى أزورك فيه فى قبرك؟ كيف سيمر يوم الجمعة دون جلستى المعتادة معك؟ كيف يا أبى؟! لماذا تحوّل يوم الجمعة (عيدى الأسبوعى الذى أراك فيه) إلى يوم كئيب! أريد أن يمر الأسبوع بدونه تجنباً ورفضاً لمشهد وقوفى أمام قبرك لزيارتك، هل ستنتظرنى مثلما كنت تفعل معى وأنا مقبلة من القاهرة لك أسبوعياً، هل عددت كم مرة كنت تكلمنى هاتفياً وأنا بالطريق كى تطمئن علىّ حتى أصل؟
أتعلم يا أبى سر صبرى على هذا الفراق الأليم؟ هو سيرتك العطرة التى يتفوه بها القريب والبعيد وعملك الصالح، وتأكدى ويقينى أنك فى الجنة بإذن الله، فالكل يؤكد هذا، فلماذا لا يدخل الجنة رجل كان لا يسعى إلا فى الخير؟ لماذا لا يدخل الجنة رجل كان يرفض أداء الصلوات الخمس إلا بالمسجد مهما بعدت مسافته أو قصرت؟ لماذا لا يدخل الجنة رجل كان يستيقظ فجر الشتاء كله للوضوء والخروج مسرعاً فى برد قارس لصلاة الفجر جماعة؟ كيف لا يدخل الجنة رجل حفظ القرآن من كثرة قراءته وتلاوته؟ لماذا لا يدخل الجنة رجل كان يسعى لإتمام الصلح بين أى اثنين يعلم أن بينهما عداوة؟ لماذا لا يدخل الجنة رجل كان يرفض إتمام أى حالة طلاق ببلدته ويسعى دائماً للصلح؟ لماذا لا يدخل الجنة رجل كان يؤمن بأن أموال الصدقة التى يتصدق بها هى سر مباركة الله فى الرزق وسر الراحة والطمأنينة والستر؟ لماذا لا يدخل الجنة رجل أطلقوا عليه «حلال المشاكل» من كثرة الخصومات التى أنهاها والأزمات التى حلها وحالات الطلاق التى أوقفها؟! نحسبك كذلك ولا نزكيك على الله.
فهل لك يا أبى أن تحل مشكلتى مثلما حللت مشاكل كثيرة لأهل بلدك، هل لك أن تخبرنى كيف أتحمل فراقك الأليم ووجع قلبى وكسرتى من بعدك؟ نعم يا أبى، سيظل هذا السؤال هو مشكلتى الكبرى فى الحياة، ولكن لا حياة من بعدك.
هل شعرت روحك الطاهرة، وأنا أخبرك خلال أول زيارة لك أمام قبرك، بعدد من جاءوا للتعزية فيك يا أبى، وحديثهم عنك وهم يعزون أخى الأكبر عن مدى ارتباطهم بك وعن آخر مشاهد جمعتهم بك حتى قبل الحادث بساعات، ومدى بكائهم وتأثرهم من مفاجأة موتك، هل شعرت روحك الطاهرة أنه حين جاء وقت غُسلك لتجهيزك لـ«الكفن» كان زوج أختى «فى نفس الوقت» يؤدى لك عُمرة؟ هل شعرت بأنك دخلت قبرك مزفوفاً بهذه العُمرة يا أبى، هل تذوقت حلاوتها؟ فلندعُ الله أن يجعلها سبباً فى نور قبرك دائماً، وأن يتقبلها لك.
أرجوك يا أبى عُد للحظة واحدة، اجلس فيها معى، أجبنى عن هذه الأسئلة، وأخبرنى كيف أتعامل مع فراقك، كيف أصدقه وأتقبله، لربما نتحمّل هذه الحياة المؤلمة من بعدك.
الكل يتعجب، الكل عبّر عن صدمته، ليس من إرادة الله فى استرداد هديته، إنما يا أبى من رحيلك فى هدوء، بالرغم من مكوثك ست ليال فى العناية المركزة، ولكن كنت هادئاً، طيباً، النور ينبعث من وجهك، نحدثك وتحدثنا من خلال ملامحك «كونك فى غيبوبة كاملة» وبالرغم من تأكيدات الأطباء لنا بأن عودتك للحياة تُعد من المستحيلات، كنا نحن على يقين أنك ستفيق يوماً ما، حتى استيقظنا صباح السبت المشئوم فى الثامنة صباحاً على خبر وفاتك وفقداننا إياك! فقدناك جسداً، ولن نفتقدك روحاً، فليرحمك الله رحمة واسعة ويغفر لك ويجازيك خير الجزاء عن صالح أعمالك، وعن حسن تربيتك فينا، وسلاماً حتى ألقاك!