جمال سلطان
هل يحكم الخوف مؤسسة الرئاسة ؟!
بعد نجاح عملية إطاحة الرئيس الأسبق محمد مرسي في 3 يوليو والتي مهدت لها مظاهرات كبيرة في الشوارع والميادين ، كان أول قرار اتخذته القيادة الجديدة ، والتي كان رجلها الأول عمليا هو الفريق أول عبد الفتاح السيسي ، هو منع التظاهر كليا ، وإصدار قانون عنيف للغاية يجعل التظاهر جريمة عظمى يمكن أن تصل بمرتكبها إلى السجن عشر سنوات وأكثر إذا أضيف إلى التهمة بعض "التحبيشات" المعتادة ، ولم يتوقف الأمر عند هذا الحد ، بل وصل الأمر إلى التعامل بالذخيرة الحية مع المتظاهرين من حركة 6 أبريل واليساريين عندما نزلوا إلى وسط القاهرة ، وحتى المسيرات ذات الطابع الرفيق والمجامل والذي يحمل الزهور للشرطة تم التعامل معها بقسوة مفرطة وبضرب النار ، فقتلت الناشطة اليسارية شيماء الصباغ في ميدان طلعت حرب وهي تحمل الورود والأزهار ، وتم القبض على عدد كبير من رموز شباب ثورة يناير وتوجيه اتهامات قاسية لهم ووضعهم في السجون لسنوات ، ومن خرج منهم وضع تحت المراقبة والسيطرة المرهقة والمعطلة لأي طاقة سياسية عندهم ، كما تم غلق الميادين بالمدرعات وفوهات البنادق المشرعة في وجوه المارة والأيادي على الزناد ، خاصة في المناسبات التي تمثل ذكرى للتظاهر ، وحوصرت ما تبقى من تظاهرات أنصار الإخوان في المدن والقرى البعيدة وغير المؤثرة جماهيريا .
كانت هذه هي الخطوة الأولى في توجه السلطة الجديدة لمحاصرة النشاط العام ، وخنق الشارع ، ووقف أي مظاهر احتجاج بأي ثمن وبأي سبيل ، على أساس سحب ما تبقى من معارضة أو قوى سياسية "شرعية" إلى المؤسسات ، وخاصة البرلمان ، وبعد تلك الخطوة تم ترتيب حزمة إجراءات وقوانين تجعل من اختراق البرلمان أمرا شبه مستحيل على من يتمردون على الأجهزة النافذة وعلى الرئاسة ، وتم تمرير خطة جعل الانتخابات بالقائمة المطلقة مع هامش صغير للانتخابات الفردية ، فخرج لنا هذا البرلمان الذي نراه الآن والذي تحول إلى مفرخة سريعة الإنتاج للقوانين والتشريعات التي تريدها السلطة وخاصة رئاسة الجمهورية ، وتم تفكيك واختراق الحزب الذي يمتلك حضورا برلمانيا نسبيا لينتهي قيادته الجديدة إلى إعلان ولائها الكامل للرئاسة الآن وفي الانتخابات المقبلة رغم أنها على بعد عام كامل ! ، وبالتالي ماتت المعارضة المؤسسية فعليا .
وأما بالنسبة للإعلام ، والقنوات الفضائية بوجه خاص والصحف الكبيرة ، فكانت مقسمة بين ما هو تابع لجماعة الإخوان بقدراتها المالية الكبيرة ، وفضائيات رجال الأعمال ، وفضائيات تدعمها الإمارات التي تعيش هاجس خوف مرضي غريب من جماعة الإخوان وتطاردها في كل مكان بالعالم ، وقد تم تفكيك وغلق قنوات الإخوان وصحفهم مباشرة بعد 3 يوليو ، وأما قنوات رجال الأعمال فوضعت تحت السيطرة الكاملة من خلال التلميح لضرر "البزنس" الخاص بملاكها ، كما أن جميعهم الآن ـ تقريبا ـ لديه ملفات قضايا جاهزة للتحريك ، فساد أراضي وكسب غير مشروع وحيازة سلاح آلي وغير ذلك ، وبعضها يمكن أن يودي بأحدهم إلى السجن المؤبد بسهولة ، وأما الفضائيات والصحف المحسوبة على الإمارات فلا تمثل تهديدا جديا ، وإن كانت هناك بوادر خلافات ظهرت أخيرا ربما تتفاقم في الأشهر المقبلة على خلفية "عدم راحة" خليجية تجاه ما يحدث في مصر وشكوك مصرية في نوايا أبو ظبي .
هذه التوجهات كان باعثها الأول ـ بطبيعة الحال ـ هو الخوف ، وتوتر السلطة الجديدة من "هاجس" 25 يناير ، والفزع من خروج الغضب الشعبي عن السيطرة بما يعيد سيناريو ما حدث مع مبارك ومع مرسي ، والرغبة الشديدة في فرض السيطرة الشاملة على الشارع وعلى القوى الشبابية القادرة على تحريكه ، ولما اقتربت مصر من السنة الأخيرة في الفترة الدستورية لحكم السيسي وبدأ الحديث عن فكرة تجهيز المرشح البديل وتردد أسماء من أبناء المؤسسة العسكرية السابقين ومن خارجها ، اتجه التفكير إلى فرض حالة الطوارئ في عموم البلاد بدعوى مواجهة خطر الإرهاب ، وتم استغلال جريمة تفجير كنيستي طنطا والاسكندرية في تمرير القرار بسرعة البرق ، على الرغم من أن الطوارئ فشلت تماما في مواجهة الإرهاب طوال أربع سنوات في سيناء ، بل فاقمته ، كما وقعت ـ في العاصمة نفسها ـ أعمال إرهابية بعد إعلان الطوارئ ، وكان الإصرار على فرضها يعني لدى كثير من مراقبي الشأن الداخلي في مصر رغبة في إحكام الحصار على الشارع والأحزاب والقوى المدنية بصورة مضاعفة واستثنائية ، رغم وجود حزمة قوانين وإجراءات سابقة قاسية للغاية ، وجعل فكرة الانتخابات الرئاسية المقبلة والأجواء المناسبة لها والحركة السياسية في الشارع والحشد الجماهيري وغيره شبه مستحيلة على أي مرشح منافس .
تلك الإجراءات كلها يبدو أنها لم تكن كافية لبسط "طمأنينة" الرئاسة الجديدة ، وضمان بقائها واستقرار نظامها ، خاصة وأنها تتعلق بالشارع والقوى المدنية ، ولا تشمل المؤسسات التي لها طابع "مستقل" ولو نسبيا ويمكن أن تتسبب في "حرج" للرئاسة في بعض المواقف والقضايا الداخلية أو الإقليمية ، فبدأ "الناصحون" بترتيب حزمة إجراءات جديدة ، تضع يدها على أي "ثقب" يمكن أن يكون له صوت مختلف أو خارج السيطرة في المؤسسات ، من أجل تطويعه وإلحاقه بالإرادة السياسية ، بطريقة أو أخرى ، فتقدموا ـ من خلال البرلمان طبعا ـ بمشروع قانون يقلص مساحة الاستقلال للقضاء ، ويمنح رئيس الجمهورية الحق منفردا في اختيار رؤساء الهيئات القضائية ، رغم إجماع القضاة على رفض هذه الفكرة وعلى خطورتها على استقلال القضاء ، ورغم رفض مجلس الدولة لمشروع القانون ، إلا أن "الإرادة" الرئاسية كانت مصرة على تمريره ، حتى فوجئ الرأي العام بتمرير القانون في البرلمان فجأة ، ورفض رئاسة الجمهورية مقابلة ممثلي القضاة الذين تقدموا بطلب للرئاسة لتوضيح خطورة الأمر ، ثم تصديق الرئيس عليه بسرعة مذهلة ، وإصدار ملحق للجريدة الرسمية به منتصف الليل حتى يكون باتا ونهائيا ولا مجال للكلام فيه .
بالتوازي مع هذا القانون كان هناك قانون آخر يجري الترتيب لتنفيذه ، يهدف للسيطرة على منصب شيخ الأزهر وهيئة كبار علمائه ، وإلحاقها بمؤسسة الرئاسة عمليا ، من خلال وضع قوانين تتيح محاكمة شيخ الأزهر أو تأديبه أو عزله ، إذا فعل كذا وكذا ، مما تقدره الأجهزة بطبيعة الحال وتغيير طريقة اختيار شيخ الأزهر لتتيح مساحة أوسع للجهة الإدارية ـ وليس كبار العلماء ـ في الاختيار ، وتم جمع التوقيعات اللازمة ، غير أن الرياح أتت بما لا تشتهيه الإرادة السياسية ، فنشطت موجة تضامن شعبي كاسحة مع الأزهر وشيخه رغم توظيف السلطة للإعلام في حملة تشويه بشعة للشيخ والأزهر ، وكان المؤتمر العالمي الضخم والذي حقق أصداء كبيرة بحضور بابا الفاتيكان ، وظهور شيخ الأزهر ومؤسسة الأزهر في صيغة الركن الركين والحصن الحصين لمصر ودولتها وشعبها والرمز العالمي لمصر ، فحدث التراجع عن القانون ، وبدأت عملية سحب التوقيعات ، ثم الاعتذار البرلماني للشيخ أحمد الطيب ، ثم إعلان رئيس البرلمان أمس عن طي صفحة هذا المشروع ، والمؤكد أن هذا تراجع "تكتيكي" ، لحين عودة ، أو توظيف ، عاصفة أخرى أمنية أو سياسية تتيح طرح القانون بسرعة البرق وتمريره .
ومع دخول مصر إلى السنة الرابعة والأخيرة في فترة الرئاسة الدستورية ، وهي سنة قلقة وغير واضحة المعالم ، تزايدت المخاوف والتوترات ، مما جعل المؤسسة توغل في أفكار "الخنق" والسيطرة على أي "ثقب" سياسي أو إعلامي أو اجتماعي يمكن أن يمثل ضغطا أو تهديدا لفرص الرئيس في الانتخابات المقبلة ، فتم طرح مشروع قانون يغلظ عقوبة ما يسمى "إهانة رئيس الجمهورية" وضموا معها إهانة البرلمان أيضا ، على أساس منع الاعتراض من المنبع ، ووقف أي نقد لممارسات البرلمان في عملية "الإسهال" التشريعي العجيب لمحاصرة الفضاء العام وتعزيز سيطرة واستبداد السلطة التنفيذية ، ثم ظهر تشريع آخر بحظر مواقع التواصل الاجتماعي ـ تويتر وفيسبوك ـ ، باعتبار أنها النافذة الإعلامية الباقية والأهم حاليا في نقد النظام وتعقب سلوكياته الشاذة أو الخاطئة وإحراجه ، غير أن التشريع كان غير منطقي وغير عملي ، فتم استبداله بتشريع آخر يناقش الآن في البرلمان يشترط حصول المواطن على رخصة لاستخدام تويتر أو فيسبوك ، وهي أفكار مدهشة للغاية في غرائبيتها ، ومسيئة جدا لسمعة نظام السيسي نفسه في الخارج والداخل .
في الخبرة السياسية للشعوب ، يكون النظام أكثر انفتاحا وتسامحا كلما كان أكثر رسوخا وقوة واطمئنانا ، ويكون النظام أكثر قسوة وطيشا وحصارا لمعارضيه ولشعبه كلما كان أكثر قلقا وضعفا وخوفا ، ووفق المعدلات البيانية التي تمضي بها الأحوال في مصر ، أعتقد أن الفترة المقبلة ، وحتى مايو 2018 ، ستكون أكثر ظلاما ورعونة وطيشا ، وأكثر إيغالا في الاختيارات السياسية والأمنية والقانونية والاقتصادية المدمرة ، والمشكلة أن "مصر" شعبا ودولة ووجودا ومقدرات ، هي التي ستدفع الثمن ، كما أن فاتورة إصلاح هذا "الميراث" الكئيب لمن يأتي بعده ، ستكون أكثر تعقيدا وكلفة وصعوبة .