المصرى اليوم
يوسف زيدان
اعتقال الشيخ الرئيس «2» «قصة قصيرة»
ظن ابن سينا أن يومين بطولهما سوف يكفيانه، لكنه احتاج- لفحص أحوال الجند والخدم العاملين بالقلعة- يوماً إضافياً وبعض يوم. وفور فراغه من تلك المشقة، عصراً، أرسل خادماً ليخبر حراس آمر القلعة «المزدوج» بأنه يود الالتقاء به، وكان «الآمر» كريم الطبع، فبادر إلى النزول إلى الفناء، حيث غرفة ابن سينا، بعدما طلب من معاونه أن يرسل إليهما وجبة العشاء عقب الانتهاء من صلاة المغرب.. وحين دخل عليه من باب الغرفة المفتوح، تهلل ابن سينا ورحب بالآمر معرباً عن تقديره لمجىء الرجل إليه، فرد عليه: وهل أقل من ذا، بعدما رأيت من تعبك الأيام الأربعة الماضية؟ والعجيب أنك فى جوف الليالى لم تنم، وكنت تكتب!.. اندهش ابن سينا وسأله: وكيف علمت بذلك وبابى مغلق علىَّ؟!

- من خيط ضوء السراج البادى من تحت الباب.

كان اليوم هو السادس من أيام اعتقال الشيخ الرئيس، الذى أنست الممارسة الطبية أنه بهذه القلعة معتقل، فانهمك نهاراً فى فحص الأبدان وليلاً فى تسويد مقالة فى القولنج. سأله الآمر: كيف وجدت الرجال؟ فأجابه وهو يتناول من فوق الطاولة وريقة، قال وهو ينظر فيها: جملة الذين فحصت أحوالهم من رجالك يا سيدى أربعة وخمسون ومائة. وأخبرونى بأن هذا هو تمام عددهم. وقد وجدت فيهم ثمانية وسبعين من الأصحاء الذين لا يحتاجون إلا للأمور واجبة المراعاة لحفظ حال الصحة، وخمسة يعانون من أمراض حادة ولابد من المبادرة إلى علاجهم لأن الإهمال قتّال فى حالتهم، وفيهم رجل أشيب اسمه «محمود البرجندى» اجتمعت عليه علّتان، وعلاجه عسر، وما لديهم من أدوية هنا ردىء ومعظمه فسد بسبب سوء الحفظ، ولا يؤمَن استعماله فى المعالجات.

- بعد يومين ستأتيك الأدوية المفردة والعقاقير، فقد وصل «أبوالزهير» صباح اليوم إلى قريته وتسلم رسالتى، فوعد بالوفاء بالمطلوب. وهو رجل يوثق بوعده. ولولا غيابه أياماً للتعزية فى نيسابور، لكان ما نريده من صنوف الأدوية حاضراً هنا منذ أمس. لكن لا بأس. وقد أخبرنى مرسالى إلى أبى الزهير بأن الرجل يحب أن يراك ويود أن يهديك شيئاً تحبه.

- تعزية!.. هل مات واحد من أعلام الرجال فى نيسابور؟

- نعم. أبوعبدالرحمن السلمى، المقرئ المتصوف، هل تعرفه؟

- سمعت به (عليه رحمة البارئ ورضوانه)، ورأيت كراريس من تفسيره للقرآن الذى سماه «الحقائق» وقرأت كتابه فى سير الصوفية.. لكن هذا الرجل يسكن بالبصرة!

- نعم، ومات فيها قبل أسبوعين. لكن أسرته وقومه أقاموا له فى ديارهم عزاءً آخر، اعتزازاً بسيرته، ولشهرته بين الناس بالصلاح- رحمه الله.

- وكيف وجدت بقية الرجال؟

لمح ابن سينا ما كتبه بالوريقة، ثم قال إنه وجد جماعة، أكثرهم من الخدم، مصابة أجسادهم ببثور النملة الجاورسية والشّرى والخراجات والنفاطات، وهؤلاء أتم استفراغهم بالفصد، وسوف يكمل لهم العلاج عندما تصل الأعشاب الطبية اللزمة لعمل الأطلية والمراهم. وكان منهم رجلان مصابان بورم الغدد التى خلف الأذن، وهى الأورام المسماة «فوجثلا»، وقد دبرهم بالتدبير ذاته إلى حين توفر الأدوية النافعة لهم. وجماعة أكبر منهم عدداً- سبعة وعشرين وجدهم يعانون القولنج البارد وما يلحق به من الزحير واحتباس الطبيعة والقراقر.

قطع «الآمر» استرسال ابن سيناء بسؤاله عن سبب إصابة كثيرين هنا بهذا المرض المؤلم، الذى يعانى شخصياً منه. «لعنه الله». قال الآمر ذلك لحظة دق على الباب الخدم الذين جاءوا بطعام العشاء، ووضعوه أمامهما على الطاولة، فابتسم ابن سينا، وهو يشير للأطباق الثلاثة قاصداً ما فيها من طبيخ: هذا جوابك قد حضر فى وقته.. فتطلع إليه «الآمر» مندهشاً وهو يقول: كيف؟! هذا والله أطيب طعام يمكن أن يؤكل فى هذه الأنحاء. فما العيب فيه؟

أفهمه ابن سينا أن هذه «الإسفيذباجات» والبقول المطبوخة معها- مما يعسر هضمه، ويكثر نفخه للقولون وللمعى الدقاق، وكذلك هذه «الكواميخ» اللاذعة، وتلك «المضيرة» بما فيها من اللحم السمين واللبن، كل هذا مضر جداً بالمعى والقولون وردىء لأصحاب القولنج.. كان الآمر يسمع وهو يأكل بشهية شتوية لقمات كبيرات تناسب رجلاً عبل البدن، وكأن كلام الشيخ الرئيس كان همساً فى فراغ مغارة.. وأدرك «الآمر» ما يدور برأس ابن سينا، فقال وهو يضحك: يا حكيم الزمان، دعنا الآن نلبِ الاشتهاء لهذا العشاء الشهى، وغداً أو بعد غد نبدأ فى العلاج عندما يأتى الدواء، ولكل داء دواء إسفيذباجة، اللوبياء هذه لذيذة المذاق جداً، تفضل.. بتهمل يلائم طبيباً عبقرياً، يعانى من القولنج، أكل ابن سينا على هون لقيمات لا يقمن الأود. تجنباً لما يدركه من النتائج، ومرضاة لمضيفه النهم الذى يلتهم ما أمامه، كأنه ذاهب فى الغد للقتال. والحال على أصحابه غلاب. بعدما انتهيا، قام «الآمر» فتمطى ثم فتح باب الغرفة ومال للأمام برأسه كى يخرج إلى الفناء فيصيح فى خادميه كى يسرعا بإحضار «الفالوذج» وما يجدانه حاضراً من حلو الفواكه: أحضِرا قنية الشراب وكأسين.. هيا.

■ ■ ■

كانت الغرفة تفوح أجواؤها برائحة الطبيخ الباقية منه فى الأطباق مقادير، وحولها فتات الخبز الذى تناثر من بين أصابع «الآمر» النهم. لا يحب ابن سينا تلك الرائحة، ويعافها منذ صغره، لكنه لم يظهر ذلك للآمر كيلا يعكر صفوه، وتمنى أن يسرع إليهما الخادمان بالشراب والفاكهة، فيرفعا ما تبقى على المائدة وتذهب رائحته.. سرح بخاطره فعاد بالزمان ثلاثين سنة، بل أكثر، وتذكر ضيقه وهو صبى من رائحة الأرز البخارى بالغ الدسومة، الذى كانت أمه تداوم على طبخه مخلوطاً بلحم الضأن والطازج من الخضروات. كانت رائحته طيبة عند الجوع وقبل الأكل، فقط، أما بعده وعند الشبع فهو مما لا يطاق. وكان حين يقول ذلك لأمه، ما كانت تهتم، وتعد كلامه من قبل دلال بكور الصبيان، وأبوه كان يضحك من تبرمه ويردف أنه دليل على أن الروائح تدرك بأشكال مختلفة بحسب حال من يشم. أبوه كان رجلاً أفغانياً نحيلاً، حاد الملامح لكنه طيب القلب شديد الذكاء محب لمطالعة الكتب، وقليل الحظ، رحل من بلدته «بلخ» وهو فى حدود العشرين من عمره طلباً للرزق وأملاً فى الحصول على وظيفة ديوانية تضمن له جريان الراتب، فوجدها فى قرية كبيرة قريبة من «بخارى» اسمها: خرمثين، فصار هناك من صغار الموظفين التابعين لبلاط السلطان نوح الثانى، أبى القاسم نوح بن منصور بن نوح السامانى، وكانت النواحى أيامها مستقرة تحت سلطانه الذى دام طويلاً حتى وفاته. لكن ابنه فشل فى الحفاظ على إرث أبيه وأجداده، ثم جاء من «غزنة» الأفغانية محمود بن سبكتكين فاستولى على تلك النواحى وفتح بلاد الهند، فصار سلطاناً مخولاً بالحكم من الخليفة العباسى ببغداد.

كان أبوه فى ذاك الزمان الأول مسؤولاً عن إحصاء التركات التى يرثها أبناء المتوفى، ويسجل ذلك فى الدفاتر لضبط أمور الخراج على المسلمين والجزية على النصارى والصابئة واليهود. وكان عمله هذا يقتضى التطواف أحياناً على القرى الصغيرة والمحيطة ببخارى، وفى واحدة منها اسمها «أفشنة» رأى الفتاة اليتيمة التى تزوجها فأنجبت له اثنين من الذكور. هذا العبقرى الذى أعطاه أبوه اسماً دالاً على مذهبه الشيعى، «الحسين» وأخيه الأصغر الذى سماه أبوه «الحسن» تيمناً باسم سبطى النبى من ابنته فاطمة وزوجها الإمام على.. كان زمان «نوح السامانى» يسمح بذلك، ولا يجد فيه أحد غضاضة أو خطراً.

كانت أم أبى على الحسين بن عبدالله بن سيناء الشيخ الرئيس، امرأة متينة البنيان أوزبكية الملامح قوية القسمات. وقد ورث عنها عينيها الواسعتين وشعرها الأسود الكثيف والجبهة العريضة، ومن أبيه ورث الصلابة والصبر والشغف بالكتب. أمه لم تكن تقرأ، فكانت تفهم ما حولها بقلبها الذى انقبض عندما انتقلت الأسرة من قريتها إلى بلدة «بخارى» قصبة الإقليم وعاصمته، إذ تخلى زوجها هناك عن الحذر الواجب المسمى «التقية» وجهر بمذهبه الشيعى، بل صادق الداعى الإسماعيلى وصار يدعوه كثيراً للمنزل الذى كانوا يسكنونه ببخارى. والظاهر أن أباه كان يأمل فى اختياره ليكون يوماً من دعاة الشيعة الإسماعيلية الذين يمهدون لامتداد دولتهم «الفاطمية» التى نجحت فى حكم مصر، وكانت تطمح للمزيد. أما أمه، فهى مثل عوام الناس فى بخارى وما حولها، ومعظمهم من الأوزبك البسطاء المسلمين، بفطرتهم. والمفروض أن عمومهم على المذهب المسمى بأهل السنة، وهم فى فروع الفقه شافعية أو أحناف، وفى أصول الدين أشاعرة. لكن هذه المرأة الطيبة التى أنجبت للإنسانية ابن سينا، ما كانت تعرف معنى المذهب والفقه وعلم الكلام، وكان زوجها الذى اختار مذهب جده الشيعى الإسماعيلى بعد تدبر، يحدثها كثيراً فى تلك الأمور التى كان يعنى بها، ولا تكترث هى، فتمل من كلامه وتنهيه بعبارتها المعتادة: المهم أننا جميعاً مسلمون، الحمد لله!.. وحين سقطت دولة السامانيين المتسامحة مذهبياً، نسبياً، واستولت على الأنحاء سيوف السلطان «محمود بن سبكتكين الغزنوى» رافعة راية السنة وقمع البدع، اضطربت الأحوال وتبدلت.. هذا شأن الأيام.. متقلبة، لا تقر.

- أراك شارد اللب يا حكيم الزمان!

- آه، نعم.. عفواً سيدى الآمر، ربما ذكرنى طعامك الشهى هذا بالأرز البخارى الذى كانت أمى تطبخه لنا أيام صباى. فالشبه ينادى الشبيه.

- إذن، فليكن غداؤنا فى الغد، الأرز البخارى.. وسوف...

- لا، مهلاً يا سيدى. يجب علينا من الغد البدء فى التدبير الغذائى، فالأطعمة والأشربة نصف العلاج.

- ههه، سمعتك تقول قبل يومين وأنت تفحص الرجال، إن التشخيص ومعرفة العلة هو نصف العلاج، وما دام الطعام هو النصف الآخر، فما حاجتنا إلى الدواء. ههه، ههه. أين الفالوذج.

■ ■ ■

دخل عليهما خادمان رفعا من فوق الطاولة الأطباق الفواحة، ووضعا مكانها قدحين من الخزف المزخرفة حوافه بالنقوش، فيهما «الفالوذج» الرقراق العسلى المطيب بماء الورد، وبوسط الطاولة وضعا طبقاً كبيراً، فيه رمان حلو، وعناقيد عنب قانٍ لونه، حباته كبار، وبجواره القنية والكأسان.. ابن سينا كان فى طفولته يسمع بالفالوذج، ولا يراه، ولما انتقل فى صباه مع أسرته من قرية «أفشنة» الفقيرة إلى بلدة «بخارى» العامرة، حضر مع أبيه ولائم فتذوقه هناك واستطابه. وفى زمن وزارته الأولى، كان ببيته مملوك يجيد صنعه ويداوم على عمله كل أسبوع. لكنه فى السنوات الأخيرة صار يقى الإكثار منه، لأنه مع فوائده وحلاوته الجلاءة الصدر، عسر الهضم، وقد يهيج أوجاع القولنج.. لمح «الآمر» نظرة الشيخ الرئيس إلى القدحين، وقرأ ما فيها من اشتهاء وتوق فقال مشجعاً: هذا مقدار قليل، نافع، فعليك الآن بقدحك قبل شرب نبيذ الفانيد، فإن هذا لن يصلح بعد ذلك.

«نعم، نعم».. قال ابن سيناء ذلك وهو يمسك بيسراه القدح ويضع فيه الملعقة بيمناه، ثم يدسها فى فِيهِ ملتذاً. ضحك «الآمر» وهو يقول ملاطفاً إن رجلاً من بدو العرب الأخلاق ذاق «الفالوذج»، لأول مرة، فانبهر بطعمه اللذيذ وأراد أن يلتهم منه طبقاً كبيراً، فحذوره من ذلك بقولهم إن الجائع إذا شبع من الفالوذج، مات! فتردد لحظة، ثم أقبل على الطبق بنهم وهو يقول: أوصيكم خيراً بأولادى.. ولما التهم كل ما فيه وهو يبتهج، قالوا له: قد حذرناك! فقال: حين نزحت من البادية إلى الحضر سكنت قرب المقابر سنوات، فما سمعت يوماً بميت أهلكه الفالوذج. ههه، ههه.

عاد الخادمان وهما يحملان بعناية جمراً يتقد فى طست نحاسى قديم، فشاع الدفء فى الغرفة والرضا فى قلب الجالسين، المتسامرين اللذين نسيا بعد ساعة أنهما حابس ومحبوس.. وكانت المرة الأولى، منذ شهور، التى يضحك فيها ابن سيناء بصوت عالٍ.

خلال هذه الجلسة، جرى بينهما خيل الكلام فى كل مضمار، حتى انتصف الليل وثقل رأس «الآمر» واحمرت عيناه، وكان مما قالاه، سؤال ابن سينا عن ذلك الرجل المسمى «شيخ القرى» ومن أين سيأتى بالأدوية المطلوبة؟ فأجابه «الآمر» بأن هذا الرجل لا يعجزه شىء. وهو من خيرة الناس بتلك الناحية، يتودد إلى الجميع، ولا يعادى أحداً، بل لا يعاتب، فأحبه أهل القرى، وارتضوا بكلامه فيهم، ورضى عنه الحكام، وفوضوه فى حل الخلافات التى تنشب بين القرويين. ما عدا حوادث القتل، وهى نادرة الوقوع. ويتوسط بين الجباة والناس فى أمور المكوس والخراج والجزية، ويقرض المحتاج من دون ربا. وهو ميسور الحال ومعدود من الأثرياء. لديه بساتين مثمرة. هو شيخ نيف عمره على السبعين سنة، لكنه صحيح البدن ونشط كالشبان، وسيكون غالباً من المعمرين! فأبوه توفى صحيح البدن وقد بلغ من عمره مائة سنة، ويقال إن جده لأبيه مات بعدما تجاوز المائة بعشرين عاماً.. الأعمار لا ضابط لها يا حكيم، أليس كذلك؟

- بلى، لكن الصحة لها ضوابط كثيرة، منها عدم الإفراط فى الأكل، خصوصاً ما كان منه شديد الدسومة، ومنها عدم الإفراط فى الشراب.

- ههه، ههه. والله إنك لمن ألطف الحكماء، فإشاراتك كلها ذكاء، وأراك قد استبد بك القلق منذ أخبرتك بأننى أعانى أوجاع القولنج.

- هذا صحيح، فهذا مما لا يجب الاستهانة به.. وقد صرت مؤخراً أعانى منه.

- لعنة الله عليه. هذا مرض وقح لا يتورع أن يصيب أبرع الأطباء ورئيس الحكماء. أخبرنى يا أباعلىَّ بسر هذا المرض الوضيع، ومن أين يأتى، وكيف يكون علاجه.. وهل له صلة بأننى نهم وشديد الشهوة للشهى من الطعام؟

أفهمه ابن سينا بأيسر الألفاظ أنه لا غضاضة فى شهيته هذه مع ضخامة بدنه، فالجسم يحتاج من الطعام ما يتناسب مع حجمه، ويكفى للقيام بمؤونته. فلا بأس فى ذلك. اللهم إلا فى حالة الاختلال المسماة باليونانية «بوليموس».

قاطعه الآمر «المزدوج» مارحاً بقوله: بوليموس ابن بطلميوس! فلم يسايره ابن سينا واستكمل كلامه بحدية: هو مرض يسميه الأطباء «الجوع الكلبى» وبعضهم يسمونه «البقرى» وفيه يتناول المريض ما لا يقدر بدنه على القيام بهضمه، ولا يحتاجه أصلاً، فيضطره ذلك إلى القىء المستمر. ثم تبطل الشهوة وتسقط، لشعور المعدة كذباً بالشبع، مع جوع الأعضاء وافتقارها إلى الغذاء، وقد يؤدى ذلك بصاحبه إلى الإغماء والغشى، أما القولنج، فهو ألم معوى يعسر معه خروج ما يخرج بالطبع من الثقل. فإن كان سببه فى المعى الدقاق فهو المعروف عند الأطباء باسم «إيلاوس» وإن كان فى القولون أى المعاء الفلاظ، قيل له قولنج.. ومن مسبباته الكثيرة برودة الجو، وكثرة البقول فى الطعام، والشراب القوى. قاطعه «الآمر» وهو يضحك كطفل عملاق:

- أنت تصف حالنا وما نحن فيه!

- سنرى، غداً، بعدما أفحصك على الوجه الصحيح لنتأكد من طبيعة ما يؤلمك. ولا تقلق، فأظنننى خبير بهذه العلة، وقد بدأت أول أمس فى تأليف كتاب عن القولنج وأنواعه وعلاجاته.

- ليتك تهدى هذا الكتاب إلىَّ ليشتهر بين الناس اسمى. ههه. فتجعل عنوانه مثلاً «الآمر المنصورى فى القولنج» أو «الرسالة المزدوجة فى القولنج» أو القولنج الغردجانى، نسبة إلى هذه القلعة التعيسة البائسة.

- يا سيدى، لا يصح أن نقرن فى عنوان بين شخص ومرض، وحين نهدى لرجل كتاباً فلابد أن يكون فى علم نافع، لا علة، ليتشرف به المهدى إليه.. ثم ما أدراك بأن علتك هى القولنج؟

- قد أخبرنى بذلك كل من حولى، أقصد الذين أخبرتهم بما يؤلمنى.

- هل فيهم طبيب نابه قام بفحصك أو سمع منك وصفاً لأعراض علتك؟

- لا والله، وكلهم هنا كالبهائم.. ههه.. ولكن يا حكيم الزمان، لماذا ننتظر إلى الغد؟! أما بمقدورك تشخيص علتى الآن؟ أتمنى عليك أن تفعل، وخير الفعل عاجله.

تردد ابن سينا لحيظة، ثم طلب من «الآمر» أن يستلقى على سرير الغرفة، وجس نبضه، ثم سأله عن عمره فقال: فى حدود الخمسين. واستخبر منه عن موضع الوجع، فقال إنه يبتدئ من خلف ثم ينحدر إلى أسفل، ويسبقه عسر فى البول وسلس وانتثار. كان ابن سينا يعلم أن هذه الأعراض تخالف أحوال المقولنج، بيد أنه أراد أن يتثبت مما لاح له، فضغط بأطراف أصابعه على موضع الكلى اليسرى فصبر «الآمر» على ذلك، وحين ضغط على موضع اليمنى صرخ وهب منتفضاً من استلقائه، ومال متألماً إلى جهة اليمين.. قال له الشيخ الرئيس: قد صدق حدسى، هذا ليس من أنواع القولنج، إنما هو حصاة فى الكلى وهى قريبة الموضع من الحالب.. هل الوجع الذى تشعر به الآن شديد؟

- نعم، شديد جداً.. كان يجب فعلاً أن نرجئ هذا الأمر إلى الغد.

- لا بأس، استرح.. سيهدأ الوجع رويداً، وسيكون علاجك سهلاً بإذن الله.

■ ■ ■

بعدما هدأ ألمه، نسبياً، ذهب «الآمر» إلى غرفته فأغلق ابن سينا عليه الباب واستلقى على السرير، وراح يحدق فى الظلام.. رأى أمه جالسة أمام الفرن الذى كان فوق سطح بيتهم القديم ببخارى، ثم رأى نفسه صبياً يتطلع نحو النجوم فى ليلة صيفية. وسمع أصواتاً خافتة كأنها الأنين، تأتيه من موضع بعيد، يستبيحون بلدة كانت قبل قدومهم بقليل نائمة.. ثم اصطخاب جنودا غلاظا، وفجأة سكن الكون وخمد.

ما هذه العتمة التامة، وما تلك الأضواء الخافتة التى تلوح من بعيد، ومن هؤلاء الرجال.. ومن أنا..؟

■ ■ ■

«لهذه القصة بقية.. الأسبوع المقبل)
تعليقات
اقرأ ايضا
الصحف