الأهرام
عبد المنعم سعيد
هيئة القوة الناعمة
لا تنفك دولة الإمارات العربية المتحدة تقدم لنا مزيدا من الدروس التى يمكن أن نستفيد منها، وربما كان أهمها هى أنها الآن تحاول التقدم
على العالم كله بالتقاط كل الأفكار الجديدة فى التنمية وتطبيقها حتى قبل أن تجد تأصيلا عمليا لها فى البلدان المتقدمة مثلما حدث مع إنشاء وزارتى السعادة والتسامح، وأخيرا إنشاء «مجلس القوة الناعمة». وحتى ندرك أهمية هذه الخطوات الجديدة فإنه لا بد من تقدير الواقع الإماراتى على حقيقته، فالصورة التى تبدو عليها الدولة الشقيقة هى لامعة حقا، وغنية، وفى العموم كما لو كانت قطعة متلألئة من الألماس والضياء تعوم على كثير من الدراهم والدولارات، وبالطبع النفط. ورغم أن الصورة فى عمومها ليست كاذبة، فإن وجودها فى الواقع كان نتيجة إدارة رشيدة لحقائق صعبة، يوجد فى بدايته أنها دولة فيدرالية مركبة من سبع إمارات لم يكن توحيدها بالمهمة السهلة أو الهينة، فى منطقة كلها لا تعلم إلا المركزية السياسية، وتنظر بشك بالغ إلى التجارب الفيدرالية وإمكانية تطبيقها فى المنطقة العربية.

ورغم أن النفط هو المصدر الأول للثروة فى البلاد إلا أن 95% منه يوجد فى إمارة واحدة هى أبوظبي، وما تبقى يتوزع بين باقى الإمارات مما يخلق فجوة فى توزيع الثروة بين الإمارات المختلفة. مثل ذلك يمكن أن يخلق فى بلاد أخرى فوارق اجتماعية وإقليمية كبيرة لها نتائجها الكارثية على مستقبل الدولة، ولكنه فى الحالة الإماراتية حدث أن النفط لم يعد هو الثروة الأولى فى البلاد، فهو يشكل وفقا للشائع قرابة 30% فقط من الناتج المحلى الإجمالى الإماراتي، والحقيقة أنه ربما يكون فى حدود 26% فقط، وذلك نتيجة زيادة الثروات الأخرى التى نمتها الإمارات الأخري، خاصة دبى التى لا يمكن وصفها بأنها إمارة نفطية. ومن ناحية أخرى فإن الإمارات باتت فى مجموعها حالة استثمارية هائلة، سواء تلك التى يقوم بها أهل البلاد، أو ما تأتى به الشركات العالمية التى تجد فى الإمارات ما لا تجده فى بلادها من فرص واستعداد لتبنى ما هو جديد ومبتكر. راجع فى هذا الشأن المنافسات الجارية فى إدارة الموانيء، وشركات الطيران، وبحوث ونتائج استخدام الطاقة الجديدة والمتجددة. الإمارات أيضا طاقة استثمارية كبيرة على المستوى العالمى والتى توزعها ما بين الدول المتقدمة الغربية، ودول نامية أخرى حيث يكون الاستثمار فى مشروعات كبيرة كما يحدث فى موريشيوس والجبل الأسود والمغرب ومصر مؤخرا.

ومن الناحية الديمجرافية البحتة فإن الإمارات تبدو كما لو كانت تواجه مأزقا أمنيا وسياسيا كبيرا، فعدد المقيمين على أرضها يقترب الآن من 9 ملايين نسمة، ويدخل دبى وحدها قرابة 30 مليونا من السائحين، وكل ذلك بينما عدد السكان ممن يحملون الجنسية الإماراتية يبلغ فقط مليونا و250 ألف نسمة أو نحو 14% من العدد الكلي. مثل هذه الحالة فى بلاد أخرى تكون صارخة فى تهديدها للأمن الوطني، وسلامة المواطنين، ومع ذلك فإن حالة التعايش بين المقيمين فى دولة الإمارات تبدو مبهرة وفقا لمقاييس دولية كثيرة لأن القاعدة الأساسية للعمل فى الإمارات هى العدالة من ناحية، والكفاءة من ناحية أخري. ولكن الديمغرافيا ليست مصدر التهديد الاستراتيجى الوحيد لدولة الإمارات، فالجغرافيا هى الأخرى لم تكن رحيمة بالدولة فجوارها على الشاطيء الآخر من الخليج توجد دولة إقليمية كبيرة الحجم والسكان وهى إيران، ولها سوابق عدوانية فى انتزاع ثلاث جزر تابعة لإمارة الشارقة، وفيها نظام ثورى ودينى فى نفس الوقت، وله نوايا توسعية ظاهرة فى العراق وسوريا ولبنان واليمن؛ وفوق ذلك له شاطيء مطل على خليج هرمز الذى يعد الحلقة الضعيفة والمنكشفة لتجارة النفط العالمية، ومن أكثر المناطق المتوترة فى العالم. ومع ذلك فإن الإمارات حلت معضلتها الإستراتيجية بنقل بترولها بأنابيب تصب فى بحر العرب لاستخدامها فى أوقات الطوارئ، وتنمية دفاعاتها بحيث إن لديها واحدا من أقوى أسلحة الطيران فى الشرق الأوسط، مع إقامة تحالفات حميمة مع الولايات المتحدة والسعودية ومصر وبقية دول مجلس التعاون الخليجي.

الحياة إذن لم تكن سهلة أو رغدة بالنسبة للشعب والدولة فى الإمارات، وإنما كان هناك جهد واجتهاد لحل المعضلات الكبرى التى تجرى مواجهتها، فكان العمل أولا على بناء «هوية» دولة الإمارات، وتحقق فى ذلك نجاح باهر فى دولة فيدرالية حديثة ومتقدمة. وثانيا فإن مشروع إدارة الثروة، وليس الفقر، وضع الدولة فى المقدمة بالنسبة لكل المؤشرات الدولية الخاصة بالتنمية البشرية والتنافسية وغيرها، فالدولة حريصة كل الحرص على أن تكون مشروعا للمستقبل وليس الماضي، وتوجها يذهب الناس له، ولا يذهبون منه إلى دول أخري. وثالثا أن إدارة الدولة هى مشروع متجدد، وعملية تتقدم كل يوم، ومن هنا كانت الجرأة على إنشاء وزارة للسعادة بمعنى مواجهة ما يقف أمام رضاء المواطنين والمقيمين عن حياتهم. هنا فإن السعادة لا تعنى حالة من «النشوة» التى تعترى الإنسان نتيجة عوامل كثيرة ومعقدة، وإنما تعنى «الرضا». وزارة التسامح فى الحالة الإماراتية جزء أساسى من عملية بناء الدولة التى يقل فيها خطر عدم التوازن السكاني، بل ويتحول فيها مفهوم «المواطنة» السياسى إلى مفهوم اقتصادى واجتماعى وأخلاقى أيضا يقوم على الاحترام والمساواة. وأخيرا إنشاء مجلس القوة الناعمة خطوة إضافية تترجم كل ما حققته الإمارات فى الواقع، وما تصبو له فى المستقبل، لكى يكون قوة ناعمة مؤثرة. هنا فإن القوة العسكرية ليست الأداة، والقوة المالية ليست الوسيلة، وإنما هى قوة السياحة وقيمة الكرم ومعنى المتعة، ومجاورة الكفاءة الإبداع والابتكار القادم من كل أنحاء العالم؛ وباختصار التأثير عن طريق أن تكون جزءا من المستقبل، وليس جزءا من بقايا الماضى وآثاره.
تعليقات
اقرأ ايضا
الصحف