"قل لي: "ماذا تتوقع"؟ أقل لك: "من أنت؟".. تلك ليست مبالغة، فقد أثبتت الأيام أنها حقيقة.
لم تعد التوقعات مجرد تكهنات أو تخرصات، في العصر الحديث الذي نعيشه، وإنما صارت علما يقوم على أدوات ودلائل، ويستند إلى مُمكِنات وشواهد.
لقد ورد ذلك في القرآن الكريم، والسنة النبوية؛ دعوةً لكل مسلم، إلى أن يضع توقعات، لنفسه وحياته، حاضرا ومستقبلا، إيجابية، أو تستهدف النجاة من السلبيات.
في هذا الصدد، جذب نظري تقرير نشرته صحيفة "دي فيلت" الألمانية؛ هذا الأسبوع، استعرضت فيه سبعة توقعات مستقبلية لمؤسس شركة مايكروسوفت، بيل جيتس، قال فيها إن أول توقعاته تراجع فرص العمل في 20 عاما، نتيجة انتشار الروبوتات والآلات، وثانيها: تلبية احتياجات الإنسان من الطاقة عن طريق استخدام الطاقات المتجددة بحلول 2030، وثالثها نجاح القارة الإفريقية في تحقيق أمنها الغذائي، بازدهار الزراعة في نحو 15 سنة مقبلة.
أما رابع توقعاته فاستفادة الدول الفقيرة من الخدمات المصرفية عبر الإنترنت، وخامسها: القضاء على الفقر عبر العالم بحلول 2035، والسادس: القضاء على مرض شلل الأطفال في أنحاء العالم بمجئ عام 2019، أما آخر توقعاته فهو وفاة نحو 33 مليون شخص، في غضون أقل من سنة، جراء الإرهاب البيولوجي.
وبغض النظر عن إمكان تحقق تلك التوقعات، إلا أنه يُلاحظ عزو جيتس لها، إلى أسانيد علمية، وتوزعها على مجالات عدة مهمة للبشرية.
إن الشخصية التي يستهدفها القرآن، منذ الصغر، تستشرف المستقبل، ولننظر، كمثال، إلى قول الله تعالى، في صدر سورة الروم: "الم (1) غُلِبَتِ الرُّومُ (2) فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ (3) فِي بِضْعِ سِنِينَ لِلَّهِ الْأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ (4) بِنَصْرِ اللَّهِ يَنْصُرُ مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ".(5).
والمعنى، وفق مفسرين: "هُزمت الروم من قِبل الفرس، في معركة وقعت في "أدنى"، أي: أقرب الأرض إلى الجزيرة العربية، في أوائل النبوة، والرسول، صلى الله عليه وسلم، بمكة، قبل الهجرة.
وسورة "الروم", مكية، وابتدأت، كما يقول الدكتور زغلول النجار، بالتنبؤ بحدث غيبي قبل وقوعه بسنوات عدة، هو انتصار الروم على الفرس، بعد هزيمتهم أمامهم، قبل نزول هذه السورة بسنوات عدة، مرجحا وقوع هذه المعركة في حوض البحرالميت, إذ جاء وصف "أَدْنَى الأَرْضِ"، وهو يعني أقربها للجزيرة العربية؛ كما يعني أنها أكثر أجزاء اليابسة انخفاضاً, وهي إشارة قرآنية تُعتبر من السبق العلمي للقرآن، وفق قوله.
وفي التعامل مع مقادير المستقبل، وضرورة الاستعداد لها؛ بالأخذ بالأسباب، واليقين بالله؛ ورد حديث خَبّاب بن الأرت، في "صحيح البخاري"، إذ قال، رضي الله عنه: شَكَوْنَا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ، صلى الله عليه وسلم، وَهُوَ مُتَوَسِّدٌ بُرْدَةً لَهُ فِي ظِلِّ الْكَعْبَةِ، فَقُلْنَا: أَلَا تَسْتَنْصِرُ لَنَا، أَلَا تَدْعُو لَنَا؟
فَقَال، صلى الله عليه وسلم: "قَدْ كَانَ مَنْ قَبْلَكُمْ يُؤْخَذُ الرَّجُلُ فَيُحْفَرُ لَهُ فِي الْأَرْضِ، فَيُجْعَلُ فِيهَا، فَيُجَاءُ بِالْمِنْشَارِ، فَيُوضَعُ عَلَى رَأْسِهِ، فَيُجْعَلُ نِصْفَيْنِ، وَيُمْشَطُ بِأَمْشَاطِ الْحَدِيدِ، مَا دُونَ لَحْمِهِ وَعَظْمِهِ، فَمَا يَصُدُّهُ ذَلِكَ عَنْ دِينِهِ.. وَاللَّهِ لَيَتِمَّنَّ هَذَا الْأَمْرُ، حَتَّى يَسِيرَ الرَّاكِبُ مِنْ صَنْعَاءَ إِلَى حَضْرَمَوْتَ؛ لَا يَخَافُ إِلَّا اللَّهَ، وَالذِّئْبَ عَلَى غَنَمِهِ، وَلَكِنَّكُمْ تَسْتَعْجِلُونَ".
والشاهد في الحديث، قول النبي، صلى الله عليه وسلم: "وَاللَّهِ لَيَتِمَّنَّ هَذَا الْأَمْرُ"، يقصد أن الله سيظهر الإسلام، على سائر الأديان، فيكون لأهله من القوة والمنعة والظهور، ما ترتفع به الغربة، والأذى، والعنت الذي يلقونه من المشركين.
وهي قضية قطع فيها النبي، صلى الله عليه وسلم؛ حالفا بالله، مؤكدا الأمر بلام القسم، ومؤكدات لغوية أخرى، لتبشير الناس بانتشار الإسلام، في وقت شدَّة وخوف وقطع طرق: "ليكمِلن الله الإسلام".
وقد حصل هذا، فقال، عز وجل: "الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ دِينًا". (المائدة: 3).
"وَلَكِنَّكُمْ تَسْتَعْجِلُونَ".. فهي نتيجة لا تتحققق في سنة أو اثنتين، بل هي تحولات أمم، تحتاج إلى فترات أطول.
أراد النبي، صلى الله عليه وسلم، أن يربي الصحابة، ومَنْ بَعْدهم، على الصبر، والثبات، وعدم الاستعجال، مع التأسي بالسابقين، من الأنبياء والمرسلين، وأتباعهم، الذين تحملوا الأذى، في سبيل الله؛ حتى تحقق وعد الله.