جمال سلطان
ليس دفاعا عن الشيخ سالم عبد الجليل
لا أعرف الشيخ سالم عبد الجليل شخصيا ، ولم تجمعني به إلا جلسة واحدة في أحد استديوهات مدينة الإنتاج الإعلامي قبل عدة سنوات في حوار تليفزيوني كنا على غير وفاق فيه ، ولكني كنت ألاحظ أنه الأكثر توازنا واعتدالا في الدعاة الملتحفين بالسلطة ، والمقربين من أجهزتها ، ولذلك شعرت بالاستغراب الشديد من الحملة التي تشن عليه الآن لأنه كان يفسر آية في القرآن تؤكد أن المسيحيين "كفار" ، ثم سحبت الخيط قناة فضائية من المحسوبين على أجهزة رسمية بعينها لكي توسع المسألة وتصنع منها ضجيجا إعلاميا مناسبا ، وربما فتنة طائفية ، وانتهى الحال باتهام الشيخ بالدعشنة ، ثم بلاغات من "محترفين" للنائب العام تتهمه بازدراء المسيحية ، ومحاكمات عاجلة بناء على طلب "جنحة مباشرة" من أحد النشطاء المثيرين للجدل من المحامين الأقباط .
والحقيقة أني لا أعرف خلافا بين المسلمين والأقباط ، قديما ولا حديثا ، في أن دين أحدهما هو نفي لصحة الدين الآخر ، وإلا ما بقي دينا ، كما قال الأنبا مرقص أسقف شبرا ومقرر اللجنة الإعلامية بالمجمع المقدس للكنيسة الأرثوذكسية عندما سأله الشيخ علي الجفري أمام خيري رمضان : هل تعتقد أن المسلمين كفار ؟ فأجاب على الفور : نعم ، وإلا لم أكن مسيحيا ، والفيديو متداول الآن على الانترنت ، وهذه من بدهيات الاعتقاد ، كما أن من أوليات دين الإسلام أن الله أحد لم يلد ولم يولد ، وأن المسيح عليه السلام بشر وليس إلها ولا ابن الإله ، وأن القرآن وحي إلهي من أنكره يوصف بالكفر وكذلك نبوة محمد ، هذه قواعد دينية يؤمن بها كل أصحاب دين تجاه باقي الديانات ، وهي أمور تتعلق بالضمير ولا صلة لها بالسلوك العملي إلا فيما ندر من أحكام تتعلق بالأحوال الشخصية أو المواريث أو نحو ذلك ، ولكنها لم تؤثر شيئا على تعايش الناس في حياتهم ، وتبادل الاحترام والصداقات والجيرة الطيبة والتعاملات التجارية والعطاء الثقافي والفني والرياضي وحتى المصاهرات الزوجية أحيانا ، وبشكل عام ، فالمواطنة هي الحاكم لسلوك الناس في الواقع ، والجميع سواء أمام القانون ، وأما اختلاف الديانات والمعتقدات فهذا يعود إلى ضمير كل إنسان واختياره ، فالله وحده الذي يسأله عن ذلك ، وليس البشر أيا كانوا .
لذلك ، ما قاله الشيخ سالم عبد الجليل ، ليس اختراعا لفكرة أو معلومة أو عقيدة أو حتى فتوى جديدة ، ولكن خطأه في استجابته للاستدراج الإعلامي واستفزازه بإعلان إصراره المتكرر على أن "المسيحيين كفرة" ، وهو أمر غريب ، هل من المعقول أن يخرج أصحاب الدعوة أو الشخصيات الدينية الرفيعة ، في الإسلام أو المسيحية ، لكي "يهتفوا" في المناسبات أن هؤلاء كفرة ؟! ، هذا سلوك لا يليق بأصحاب الدعوة ، كما أن اعتقادك أن المسيحي كافر أو اعتقاد المسيحي أنك كافر ، لا يسوغ أن تتحول الأمور إلى مهزلة أن تقابله في الصباح مثلا فتقول : صباح الخير يا كافر ! ، هذا يتنزه عنه العقلاء وحتى أصحاب المشاعر الإنسانية الفطرية ، وكذلك تكرار هذا التصنيف الديني في وسائل الإعلام منكر وغير لائق وينبغي أن يتنزه عنه أصحاب الخطاب المسئول ، هذا الشرح ربما يناسب دروس التعليم الديني أو التفسير ، لكنه لا يناسب الخطاب العام ، ولا المنابر الإعلامية العامة ، لأنه قد يفهم منه إهانة متكررة لمشاعر الآخرين ، وربما يتحسس البعض من أنه جرح لمعتقده وتعمد للاستفزاز ، هنا أخطأ الشيخ سالم بالفعل ، وإن كان صحح ذلك بالاعتذار لإخواننا الأقباط عن أي شعور بالإساءة من كلامه .
غير أن خطأ الفضائيات التي تولت "كبر" هذا الموضوع هو خطأ مضاعف ، وأسوأ من خطأ سالم عبد الجليل كثيرا ، وكانت تلك المنابر قادرة على "إماتة" تلك الفتنة ، لو كانت ترغب في ذلك ، بتجاهلها ، ولكنها كانت حريصة على تكرارها وتوسيع رقعتها واستطلاع الآراء حولها ونشر الجدل فيها والغوص في أوحالها ، بصورة من الواضح أنها مقصودة ، مما فتح الباب واسعا أمام جدل ديني شديد الحساسية والخطورة ، والإيغال فيه يضر الوطن ضررا فادحا ، ولا يصل لأي نهاية أو مرفأ ، فتلك طبيعة الأديان والعقائد منذ آلاف السنين .
الهوجة المصطنعة استقطبت بعض طالبي الشهرة بطبيعة الحال ، من كتاب وإعلاميين ومحامين ، كما أن البعض اعتبر أنها نوع من سحب الخيال المجتمعي إلى فضاء بعيد عن همومه الحقيقية والجدل المتصاعد حول انتخابات الرئاسة المقبلة ، والبعض اتخذها مطية لتجميل وجهه هنا وهناك وتقديم نفسه كنبي للاستنارة والتسامح على أمل أن يحظى بنظرة ، والبعض استغلها لضرب سالم عبد الجليل ضربة مميتة سياسيا ، حيث كان المرشح البديل دائما لمناصب دينية رفيعة .
حسنا فعل الأزهر الشريف بأن نأى بنفسه عن تلك "الهوجة" السخيفة ، لكني لم أفهم رد الفعل العصبي والمتشنج لوزير الأوقاف ، وعنفه المفرط تجاه الشيخ سالم ، وأنا أقدر ـ بطبيعة الحال ـ حماسة الشيخ مختار جمعة في دفاعه عن مشاعر الإخوة الأقباط ، لكن من المهم أن يعرف "الشيخ" أن الأقباط لا يتأذون فقط ممن يجرحهم في مشاعرهم الدينية ، ولكن أيضا يتأذون من اغتصاب الوظائف الرفيعة في الدولة لأبنائنا وبناتنا دونا عن أبنائهم وبناتهم أيضا ، يؤذيهم غياب العدالة ، والظلم في توزيع الفرص في الوظائف العامة ، ولذلك ينبغي أن يكون الوزراء وعلماء الدين قدوة للآخرين في رفض التمييز ، والابتعاد عن مظان الفساد واغتنام الفرص الوظيفية لأبنائهم دونا عن بقية المواطنين ، أقباط ومسلمين ، وأنا واثق أن الشيخ مختار جمعة سيلتزم بذلك ويصحح أي وضع خاطئ أو منحرف ولو على نفسه والأقربين ، لكي يستقيم قوله مع فعله .