نيفين مسعد
من المناطق الآمنة إلى مناطق التهدئة
انتهت يوم الخميس 4 مايو الجولة الرابعة من مفاوضات الأستانة حول الصراع في سوريا ، وخرجت علينا المفاوضات بمبادرة روسية تهدف إلي إقامة أربع مناطق لتخفيف التوتر في كل من: محافظة إدلب وجوارها وريف حمص الشمالي والغوطة الشرقية وجنوبي سوريا علي أن تضمن التنفيذ كلا من روسيا وإيران وتركيا . المبادرة كما قيل تبني علي اتفاق وقف إطلاق النار الذي تم إبرامه في ديسمبر الماضي ، وهي تهدف إلي التقاط الأنفاس وتيسير عودة المُهجرين وتنقُلهم بين المناطق الأربع ، كما أنها تهدف إلي تهيئة ظروف التوصل إلي تسوية سياسية ، وتطلع القائمون علي المبادرة إلي دعم جهود الفصائل المسلحة «المعتدلة» في تصفية بؤر انتشار التنظيمات « المتشددة « الموجودة داخل تلك المناطق. كما عوّل رعاة المبادرة علي أن تتولي قوات تابعة لدول غير متورطة في الصراع مسؤولية مراقبة التنفيذ وتأمين مناطق تحرك المدنيين .هذا و لم يتم نشر نص المبادرة لأن كثيرا من التفاصيل التي تتعلق بترسيم حدود تلك المناطق وجنسيات المراقبين لم يتم حسمها بعد .
كملاحظة أولي علي « مناطق تخفيف التوتر» يمكن القول إنها تمثل استباقا روسيا لتنفيذ الولايات المتحدة خطة «المناطق الآمنة « التي تحمس لها ترامب منذ كان مرشحا للرئاسة . ولعل التحرك الفوري للآليات العسكرية الأردنية واحتشادها علي الحدود مع سوريا يعكس نوعا من رد الفعل علي مخرجات أستانة 4 ، ومعلوم أن هذه المنطقة الجنوبية وردت في خطة ترامب أيضا وهدفها الأساسي إبعاد قوات النظام عن الحدود مع إسرائيل، لكن بوتين أخذ زمام المبادرة وطور فكرة ترامب وجعل حليفه الإيراني أحد الضامنين لها، وهذا مكسب ما كانت إيران تحلم به. الآن مازال الصراع الروسي - الأمريكي علي سوريا صراعا محكوما وله ضوابطه ، فقبل أن تقصف صواريخ توما هوك القاعدة العسكرية بمطار الشعيرات يقوم ترامب بإبلاغ بوتين ليسحب جنوده من القاعدة ، وبعد الإعلان عن مبادرة « مناطق تخفيف التوتر» يحاول بوتين إقناع نظيره الأمريكي بها وإن كان الأخير من الأصل لم يعارضها . فإلي أي مدي يمكن الحفاظ علي هذا الصراع المنضبط بين الدولتين ؟ سؤال لا يملك أحد الإجابة عليه لأن ديناميات الصراع السوري عموما تتفاعل بشكل يتجاوز حدود كل منطق ، فمن كان يصدق مثلا أن تؤمن قوات سوريا الديمقراطية طريق داعش إلي الرقة مقابل انسحاب التنظيم من مدينة الطبقة مع علم داعش أنه ذاهب ليحصر في الرقة ، أو أن تسترد الولايات المتحدة من الأكراد مناطق في ريف حلب الشمالي وتسلمها للجيش السوري الحر المدعوم من تركيا، بينما هي تسلح الأكراد تسليحا ثقيلا بما يستفز تركيا غاية الاستفزاز ، هذا فقط مجرد نذر يسير من مفارقات الأيام القليلة الماضية أما التبدل في أطراف التحالفات والمواجهات منذ بداية الصراع السوري وعلي مدار ست سنوات فحدث ولا حرج .
كملاحظة ثانية نجد أن تطبيق المبادرة الروسية تعترضه حزمة من الصعوبات تبدأ من داخلها نفسه ، فمع أن المبادرة عنوانها «تخفيف التوتر» وليس إنهاءه إلا أن مجرد تعويلها علي المعارضة المسلحة «المعتدلة» في تصفية الجيوب التي تشغلها تنظيمات «التطرف» يعني في الواقع أنه لا تهدئة ولا تخفيف للتوتر ، فتلك التنظيمات تقاتل وتتقاتل بشراسة فائقة لا أدل عليها من المعارك التي شهدتها مؤخرا الغوطة الشرقية لدمشق وراح ضحيتها العشرات من أعضائها ، هنا تتبين مفارقة أخري من مفارقات الصراع السوري الممتد عندما تجد بعض فصائل المعارضة نفسها مدعوة لأن تحارب في خندق واحد مع النظام ويكون هو مدعوا لدعمها. وطالما تتعذر التهدئة فإن الحديث عن عودة المهجرين يصبح حديثا مشكوكا فيه ومثله الحديث عن قوات حفظ السلام .أما العائق الآخر الكبير الذي يعترض المبادرة فهو الرفض الفوري الذي قوبلت به من المعارضة السياسية والعسكرية السورية إلي حد اعتبار أسامة أبو زيد المتحدث الرسمي باسم المعارضة أن « اتفاق تخفيف التوتر هو اتفاق بين الدول الثلاث ولسنا جزءا منه « . وبين أسباب كثيرة وردت في تبرير رفض المبادرة كان هناك تركيز شديد علي دور إيران كضامن ، وكأنه لا مشكلة مع روسيا بقواعدها العسكرية في سوريا ولا مع تركيا بقواتها الموجودة علي الأراضي السورية وبتصريح رئيسها عن عزمه تغيير معاهدة لوزان بما يعني قضم مساحات من سوريا تضاف لما آل إلي تركيا أصلا بموجب هذه المعاهدة . لقد شاهدت حديثا لعضو بالهيئة العليا للمفاوضات علي إحدي الفضائيات يقول فيه إنه يعرف أن روسيا لها أطماعها في سوريا لكن روسيا لا تتحرك بدوافع مذهبية مثل إيران ولم يشر بحرف للاحتلال التركي، وهذا لعمري تعريف جديد تماما لمعني الاحتلال يعكس مفارقة أخري في الصراع السوري ، المحتل الأجنبي هو ذلك المحتل ذو المذهبية الشيعية فقط لا غير !
كملاحظة ثالثة يجدر بِنَا التطرق لما ذُكِر عن أن المبادرة الروسية تكرس التقسيم الطائفي ، وواقع الحال أن التقسيم الطائفي والفرز الديموجرافي تحقق من قبل من خلال اتفاق التهجير المتبادل بين البلدات السورية الأربع الذي دخل مرحلته الثانية قبل عدة أيام ، أما المبادرة الروسية فقد تعاطت مع ثلاث مناطق أغلبية سكانها من المسلمين السنة مع بعض الاختلاط في المنطقة الجنوبية ، أي أننا لسنا بصدد منطقة سنية وأخري شيعية وثالثة كردية ... إلخ . لكن ما يمكن قوله إن المناطق الهادئة كالمناطق المحررة في دول الصراعات العربية تؤدي لنشوء هيئات محلية لتسيير الأمور تكتسب شرعية يصعب التنازل عنها مستقبلا . وفيما يخص الأكراد الذين انضم حزبهم «الاتحاد الديمقراطي الكردي» إلي المعارضين علي أساس أن المبادرة ستهدد مناطق الحكم الذاتي للأكراد في الشمال، فليس في المناطق الأربع نقاط ارتكاز لهم ، إلا إذا كان ابراهيم ابراهيم الناطق باسم الحزب يقصد بحديثه مناطق يتم التخطيط لاستقطاعها مستقبلا من حلب .
ذكرني دكتور محمد مجاهد الزيات بكتاب باتريك سيل «الصراع علي سورية: دراسة للسياسة العربية بعد الحرب 1945- 1958»، وعندما عدت إليه وجدته يقول «إن من يقود الشرق الأوسط لابد له من السيطرة علي سورية ...... فكما أنها مركز المنافسات بين الدول العربية فهي أيضا المحور الذي تدور حوله أعظم التحركات الدبلوماسية التي يمارسها الغرب والاتحاد السوڤيتي». ما يزال قول باتريك سيل صحيحا تماما وإن تفكك الاتحاد السوڤيتي وورثته روسيا التي تعود بقوة مع بوتين إلي ساحة الشرق الأوسط ، وإن تحولت التحركات الدبلوماسية إلي حروب دولية بالأصالة وبالوكالة بالغة الدموية والشراسة .