وبدأ موسم التسول، وهلَّت بشائر الدراما قسم تراجيديا، وهو ما سيستوجب بطبيعة الحال استنفاراً من قبل رافعى راية الدفاع عن الفقراء، ولكن من باب «الدولة الفاشلة» و«النظام الظالم» و«الفساد الطاغى» و«رايحة بينا على فين يا مصر؟!»، وعلى الرغم من مشروعية السؤال، ووجوب البحث والتنقيب عن إجابات تشفى الغليل وتخفف من وغر الصدور، فإن الاكتفاء بالسؤال عن الوجهة التى تسلكها مصر عبر التكتكة على الموبايل أو اللاب توب، يعنى أننا سنتوقف عند مرحلة طرح الأسئلة دون العثور على إجابات لحين إشعار آخر. الإشعار الدائرة رحاه فى شوارع المحروسة هذه الأيام ينبئ بخروج جحافل من المتسولين الـPart time وآخرين ممن يتخذون من التسول مهنة إضافية قبل أو أثناء أو بعد ساعات العمل الرسمية، بالإضافة إلى فريق ثالث ممن يعتبرون التسول هواية وملكة وموهبة. العقد الأخير، وربما العقدان، اتسما بارتباط موسمى شرطى بين شهر رمضان المبارك والتسول، جانب من الظاهرة يتعلق بالعامل النفسى والـ«أمبيانس» الدينى الذى يجتاح عموم المصريين من المسلمين طيلة هذا الشهر الجميل الكريم، فالدق على أوتار عمل الخير ونغمات الشعور بالفقراء يصل أقصاه إعلامياً ومنبرياً طيلة الشهر والأسابيع التى تسبقه. وهذا دق جميل، لكنه للأسف يخلط الحابل بالنابل، ويجعل كل من يدق يده مردداً «كل سنة وأنت طيب» مستحقاً للصدقة، وهو ليس كذلك. شخصياً أعرف عائلات ممتدة تظهر بكامل قوتها، بدءاً بجيل الأجداد والجدات، مروراً بالآباء والأمهات وانتهاء بالأحفاد والحفيدات تتمركز فى مناطق استراتيجية عدة فى شارع الثورة فى مصر الجديدة، ولا سيما عند المطبات والـ«يوتيرن» وبؤر الازدحام المرورى التى تدرسها هذه العائلات جيداً. هذه المناطق تحتم تهدئة إجبارية للسيارات، وهو ما يعنى اضطرار قيام ركاب السيارات بالتدقيق فى ملامح ومعالم المتسولين، وما أدراك ما ملامحهم ومعالمهم. عملية دقيقة لتقسيم الأدوار، فمنهم من يربط عيناً، ومنهم من يرفع رجلاً، ومنهم من يلصق إصبعين فى بطن كف اليد، وهناك من يبدع فى مجال لغة الجسد، فتجد إحداهن جالسة على الرصيف حاملة رضيعاً (على سبيل السلف أو جرى خطفه أو تم تأجيره) وواضعة يدها على خدها مع إصدار نهنهة خافتة أو برطمة ساكنة كلما مرت سيارة فارهة إلى جوارها. وتصادف أخرى وقد ارتدت النقاب وحملت كتب الأدعية وملصقات من الأحاديث وهى تتمتم بكلمات تنم عن «إيمان» شديد وورع رهيب، وتخبط بيدها على زجاج السيارة مستحلفة إياك لتعطيها شيئاً من أجل النبى (صلى الله عليه وسلم) وبحق الصيام. وبالطبع هناك نجوم الموسم وكل موسم، الذين لا يجدون إدارة تسيطر عليهم، أو جهة تحاسبهم على أفعالهم، أو حتى مديراً يعاقبهم على ما يفعلون، إنهم قوة مصر الجامدة، جيوش الكناسين وكذلك الكناسات، ومعهم الكناسون لبعض الوقت الذين يقترضون ملابس تشبه ملابس الكناسين، فيتصادف أن يكون بعضها أحمر والآخر أزرق أو أخضر أو أصفر، وكله حسب التساهيل، أما عدة النصب، فتتمثل فى مقشة طويلة و«برنيطة» صغيرة وحركة بطيئة متكررة تتمثل فى تحريك المقشة مرة ذات اليمين ومرة ذات اليسار، مع التمحيص فى داخل السيارات لانتقاء من يستحق تكبد عناء الشحتفة والنهنهة. وبالطبع سيظهر من يدافع عنهم، ويجلس على منصة القضاء حيث معاقبة من يتجرأ على ازدراء الفقراء، فهم لا يجدون ما يشبع بطونهم أو يسعد قلوبهم، ومن ثم لا يصح أن تلومهم على ساعات طويلة يقفونها فى الشمس للتسول. لكن أحداً من أولئك القضاة لا يطالب الكناسين مثلاً بالقيام بمهمتهم الرئيسية ألا وهى كنس الشوارع، قبل السماح لهم بالتسول، ويتحول المعارض لهذا المظهر الكريه إلى رأسمالى متعفن أو كاره للبروليتاريا متغضض. ولا مانع أبداً من أن يتحول النقاش ليصب فى كفة «الدولة الفاشلة» التى تتحمل وحدها هذه الحال التى وصل إليها الكناسون (ومدعو الكنس)، و«السجون المليئة بالمظلومين» و«الأصوات المكبوتة» و«الأرواح الملكومة» إلخ، ليصبح الكناس الذى هجر الكنس واعتنق التسول رمزاً يحتذى وقدوة تُبتغى، والمطالب بالسيطرة عليهم أشاكيف رهيبة وغيلان بلا قلب. قلب المؤمن دليله، لكن قلب الصائم فى نهار رمضان المصرى يجعله أحياناً يمد يده فى جيبه ويدس ما تيسر من جنيهات فى يد المتسول الذى يتبع مدرسة الابتزاز فى التسول، هذا النوع من المتسولين يقف عند محلات الحلويات الفاخرة والمطاعم الفارهة، حيث يتم اعتماد لغة العيون، هذه اللغة فيها تهديد ووعيد قبل أن يكون فيها مذلة وعوز، والمعنى فى بطن المتسول: إن لم تعطنى صدقة، وصدقة كبيرة، فسأنظر لك فى علبة الحلوى التى تحملها أو الوجبة التى ستلتهمها وستأكلها بالسم الهارى أو بالمرض الضارى.
وما دمنا نتكلم عن التسول الرمضانى، فإن أبواب المساجد يتناحر عليها الكثيرون والكثيرات كمناطق هيمنة وبؤر سيطرة. وهل هناك ما هو أحلى أو أجمل من أن يتوجه الصائم ليصلى فى المسجد، ثم يواجه بتشكيلات كاملة من المتسولين على الباب، وكل منهم يدق على وتر حساس. فإن كان المصلى يحن إلى والده المسن لديه المتسولون فوق السن يذكرونه بالوالد ويستنفرونه من أجل روحه الطاهرة، وإن كان رقيق القلب طيب المشاعر، فليس هناك أفضل من قبيلة كاملة حيث سيدة تحمل رضيعاً ويمسك فى كلتا رجليها طفلان، ويلتصق بجلبابها ثلاثة أو أربعة أو خمسة من الصغار. ولمن يؤمن بأن آفة المجتمع قلة النقاب، فلديه كذلك متسولات لا أول لهن أو آخر منتقبات متسولات مهمتهن مكافحة الآفات، ويكفى أن عبارة «كل سنة وأنت طيب» باتت تعنى «هات فلوس».. كل سنة وأنتم طيبون.