الأهرام
أمينة شفيق
محاولة لفهم ما يجري من أحداث
أكدت الانتخابات الفرنسية مؤشرات كان البعض منا يتصورها بريطانية بحتة، مع الاستفتاء على عضوية الاتحاد الأوروبي، أو أمريكية خاصة مع انتخابات الرئيس دونالد ترامب غير المنتمى لمؤسسات الدولة، او حتى مجرد اسكتلندية مع تزايد رغبة الشعب الاسكتلندى على الانفصال عن عرش المملكة المتحدة الذى انضمت اليه عام1707 لتعود مرة اخرى مستقلة. ولكن باتت هذه المؤشرات اكثر وضوحا مع الحالة الفرنسية. وهى تشير الى ان الشعوب لم تعد راضية عما كنا نسميه قديما بالنظام العالمى الجديد وبتنا نشير اليه بالعولمة. كما انها لم تعد راضية عن مؤسساتها القديمة وباتت تميل الى التغيير. فالتعبير عن الغضب الشعبوى بات اكثر وضوحا، ويكتسب ارضية مع كل انتخابات حرة عامة.

وتكتسب هذه المؤشرات الفرنسية أهمية بالغة عندما نرصدها جيدا فى فرنسا، بلد الثورة البورجوازية الكبرى التى غيرت بالفعل المسار التاريخى بدءا من القرن التاسع عشر. فهى الثورة الأم التى ساعدت الرأسمالية على التبلور لتصبح واقعا اقتصاديا واجتماعيا وسياسيا، ثم لتتشكل على هذا الواقع حقائق ومكونات وقيم اجتماعية وسياسية ديمقراطية جديدة. مثلا، كان صدور أول إعلان لحقوق الإنسان والمواطن فى فرنسا عام 1789. كما تكتسب أهمية كونها أحد الأعمدة المهمة للاتحاد الأوروبى وأنها سادس رأسمالية فى العالم، وتتمتع بقوى ناعمة هائلة.

المهم، وهو واضح الآن أمامنا، أن الشعوب فى هذه البلدان المذكورة عبرت عن عدم رضاها عن المؤسسات السياسية التقليدية التى حكمتها، ولا تزال. فى الولايات المتحدة الأمريكية كما فى فرنسا كما فى المملكة المتحدة (وحتى فى ألمانيا التى تعتبر ورشة أوروبا الصناعية) اتضح زيادة معدلات الفقر والبطالة وان الجماهير فى المناطق الصناعية الكبرى شهدت نزوح أصول انتاج بلادها إلى البلدان البعيدة حيث الاجور الأدنى وحيث علاقات العمل الأكثر تراجعا. ولم تعد الهوية الوطنية تهم اصحاب الاعمال قدر اهتمامهم بتوزيع هذه الأصول المنتجة على عدة مواقع لتحقيق فائض القيمة الاكبر. ولاشك ان هذا التوزيع قد أفاد البلدان المستقبلة للاستثمار بحيث فتحت فرص عمل جديدة لجماهيرها التى كانت باحثة عن فرص العمل وعن الدخل القومى الذى يفيد خزانة الدولة.

ولكن كانت المفاجأة فى اعياد أول مايو 2017 عندما خرج ملايين العمال فى مسيرات حاشدة فى كل من اندونيسيا والفليبين (البلدان مستقبلان للاستثمارات) رافضين نظام اجورهم ومطالبين برفع الحد الأدنى الذى لم يعد يكفى احتياجاتهم. اما فى فرنسا حيث كانت الانتخابات، فقد انقسمت الحركة النقابية وخرج مئات الآلاف فى مسيرات تصادمت مع الشرطة لأول مرة. فالنتيجة الواضحة امامنا هى ان النظام العالمى الجديد هذا لم يحل مشكلات جموع الجماهير العاملة فى البلدان المتقدمة او النامية. فى بلادهم يعانى العمال البطالة وفى البلاد المستقبلة استمر المستثمرون يربحون من استغلال علاقات العمل المتردية. لقد وضح فى الانتخابات الفرنسية هذا الصراع بين المدافعين عن النظام الحمائى القديم وبين هؤلاء المدافعين عن ذلك العالمى الجديد. دافعت مارين لوبان عن الأول الذى كان يعنى الخروج من الاتحاد الاوروبى والحد من قبول المهاجرين بينما دافع ايمانويل ماكرون عن العلاقات مع الاتحاد الاوروبى (مع ادخال بعض الإصلاحات على أدائه) وعدم كسر قوانين العولمة الخاصة بحرية انتقال السلع والمال والأفراد. هكذا بدا الصراع مفتوحا فى الساحة السياسية وبات الحديث مفتوحا واضحا عن زيادة مركزة المال فى يد القلة القليلة من اصحاب المليارديرات فى حين تزداد البطلة والفقر فى صفوف الجماهير فى بلدان أوروبا وباقى بلدان العالم.

وهو صراع ليس بالهين أو البسيط لأسباب:

اولها انه يرتبط أشد الارتباط بالثورة التقنية الرقمية الحادثة والمستمرة الآن. فإذا كانت الرأسمالية قدمت انجازاتها العلمية الهائلة فى القرن التاسع عشر ثم فى القرن العشرين فإن التجديد فى هذه الرأسمالية الجديدة الكونية والذى خرج بها من حدودها الوطنية إلى توسعاتها الكونية قدم تجلياته العلمية فى هذه الثورة التقنية العظيمة فى مجالات الاتصالات والمعلومات والنظام الرقمى الذى لم نكن نعرفه ولكنه بات جزءا من تعاملاتنا اليومية فى اركان المعمورة. لذلك يصبح الدنو من مكونات هذه الرأسمالية يعنى الدنو من ابداعاتها العلمية التى قدمت للبشرية نمطا للحياة لم نكن نعرفه قبلا والذى يخضع لكل جديد فى كل يوم.

ثانيها انها بتوسعها الكوكبى اسهمت من حيث لا تدرى اطرافها النشطة بدعم حقيقة انها تتوسع ومعها ليس تأثيراتها الايجابية فحسب وإنما ومعها الأخرى السلبية وكذلك المدمرة. فنقل الافكار والافعال لم يعد يخص القائمين على صناعات الموضة والازياء والعطور الغالية وإنما استخدم كذلك فى نقل الفكر الهدام الذى يستفيد من ازمة الجماهير مع نظامها الاقتصادى الجديد الذى لم تستفد منه ولم يلب احتياجاتها الحياتية كما قيل لها من الساسة ومنظماتهم التقليدية التى عرفوها. فعندما روجوا للعولمة اشاروا إلى حرية حركة الاموال والسلع والأفراد ولم يشيروا، ربما لأنهم لم يلاحظوا مبكرا، إلى حركة انتقال الأفكار.

.فالإرهاب المتأسلم استمر حبيس بعض دول منطقة الشرق الأوسط ولكنه بات وباء عالميا بدءا من الألفية الثالثة مع تطور كل التقنيات الحديثة فى وسائل الاتصالات. وباتت المنافسة واضحة بين من يصنع هذه التقنية وبين من يستولى عليها ويستخدمها لغير صالح البشرية. ولا تزال المنافسة جارية. لكل جديد يقدمه صناع التقنية نجد التطور فى استخدامها فى عمليات الارهاب وقتل الحياة. فالانتشار الأفقى للثورة التقنية يصحبه انتشار افقى للإرهاب كما ان الانتشار الرأسى بات يصحبه انتشار رأسى فى نوعية البشر الإرهابى وانماط تعليمهم ودرجات انتماءاتهم الاجتماعية.

ثالثها أن الدنو من العولمة يعنى الدنو من اوضاع اجتماعية وقانونية تشكلت فى البلدان المصدرة للمال وتلك الأخرى المستوردة له. لقد وضح مع عملية بدء اعداد التفاوض على البركست (خروج بريطانيا من الاتحاد الاوروبي) ان مقابل عشرات الآلاف الاوروبيين العاملين فى منظمات بريطانية يوجد عشرات الآلاف البريطانيين العاملين فى منظمات الاتحاد الاوروبي. مما يحتاج إلى عملية فك اشتباك معقدة. تحتاج قوانين الرأسمالية الحالية الى اعادة النظر لتصبح اكثر ديمقراطية واستجابة لحاجات ورفاهة الجماهير فى البلدان المصدرة لرأس المال او لتلك المستقبلة له وإلا تكررت حركة خنق الشعوب سياسيا ومالية ودفعها الى الارتماء فى خندق الفاشية القاتل. يجب الا ننسى ان حزب اليمين بقيادة مارين لوبان بات الآن اول احزاب المعارضة الفرنسية بعد ان كان حزبا مغمورا فى القرن الماضي.
تعليقات
اقرأ ايضا
الصحف