ابنتي أم كلثوم.. كلامك في إحدي صحف يوم الجمعة الماضي. أبكاني ومزق قلبي.. نجيب محفوظ الذي فتح باب "نوبل" لأول مرة يذكر فيها اسم مصر في هذا المجال التنافسي العالمي السنوي الكبير. ليدخل من بعده أنور السادات. ثم زويل. ثم البرادعي.. هذه القلعة الأدبية الفكرية السياسية الشامخة علي المستوي الإنساني العالمي.. حينما كانت المفاجأة الضخمة بفوزه بالأوسكال. سأل المندوب: من الذي رشحني؟!.. فاتضح بالبحث أنه لم تتقدم مصر ولا أي هيئة أو مؤسسة أو مكتبة عالمية أو غير عالمية بترشيحه.. وهذا يحدث لأول مرة في تاريخ هذه الجائزة العالمية الفريدة.. رشحه اسمه علي ملايين كتب الأدب. بلغات العالم في كل مكان.. الترجمة درجات.. أصعب أنواع الترجمة هي ترجمة الرواية والقصة!!.. ومع ذلك تمت ترجمة كل قصصه الكبري. بكل لغات العالم!!
* * *
عقب الحرب العالمية الثانية طبع ونستون تشرشل مذكراته الشخصية بعد المعجزة التي حققها بفوزه علي ألمانيا وجيش هتلر المرعب.. تشرشل أساساً أديب وله تعبيرات إنجليزية من الصعب جداً ترجمتها.. عندما اشتري محمود أبوالفتح. صاحب جريدة "المصري" حق نشر المذكرات قالوا له: من الصعب أو المستحيل تجد مترجماً لهذه المذكرات.. كان هناك صحفي كبير مشهور اسمه "عباس حافظ" يعتبرونه "ملك الترجمة" من الإنجليزي إلي العربي. ومن العربي إلي الإنجليزي.. خاصة هذه الأخيرة.. تولي عباس حافظ ترجمة مذكرات تشرشل اليومية.. وكان لها صدي عالمياً.. وفجأة مات الرجل الكبير في عز متابعة الناس ــ كل الناس ــ لهذه المذكرات الشيقة الغريبة جداً. خاصة عندما احتل هتلر فرنسا. وأصبح علي بعد خطوة ويهبط في انجلترا.. وكان كلام تشرشل:
ــ إذا نزل الجيش الألماني علي شاطئ انجلترا سيقاومه الشعب الذي عليه أن يستعد. فالجيش البريطاني إمكانياته متواضعة!! وكيف ظن هتلر أن تشرشل يريد استدراجه لكي ينزل الجيش الألماني علي الشاطئ الإنجليزي المملوء بالألغام. لنسف الجيش كله مرة واحدة!!!
والحقيقة غير ذلك تماماً.. فقد كان تشرشل صادقاً مائة في المائة. وضاع علي ألمانيا فرصة العمر لاحتلال انجلترا.
المهم كان الناس مهتمين ومشدودين لهذه اليوميات المثيرة.. ومات المترجم.. فما الحل؟!.. صحفي ناشئ يعمل مترجماً في "المصري" وفي نفس الوقت في السفارة الهندية. كمترجم أيضاً.. طلب إعطاءه فرصة. وكانت فرصة العمر كله. كانت ترجمة الصحفي الناشئ لا تقل فقط عن ترجمة "ملك" الترجمة العالمي.. اسم هذا الصحفي الناشئ "محمود عبدالمنعم مراد" خير من كتب العمود اليومي فيما بعد.. وخطفه مصطفي أمين بمجرد مصادرة المصري!!
* * *
سرحت في هذه القصة الجانبية لأوضح أهمية ترجمة كتب نجيب محفوظ "الأديب العالمي" الذي تجاهلته مصر بعد وفاته. ولم تعطه جزءاً صغيراً من تكريمه خلال حياته.. هل معقول أن تنقرض أسرة هذه القلعة الضخمة.. واحدة وراء الثانية.. ماتت زوجته دون كلمة في أي مكان أو زمان.. ثم ابنته الكبري فاطمة منذ ثلاثة أسابيع. في تجاهل غريب!!!... صديقة فاطمة. كاتبة الموضوع الصحفي. سألت عليها يوم الأحد الماضي. فلم تجدها!!.. سألت طوب الأرض دون جدوي!!.. ذهبت إلي مدفن الأسرة. وعلمت هناك أن الوفاة منذ ثلاثة أسابيع!!
ياه.. يا ابنتي أم كلثوم.. هل هذه نهاية عائلة صاحب أكبر فضل علي "لغة الضاد" كلها.. بكل مفرداتها وأشكالها وفروعها واستعمالاتها؟!.. لغة الضاد كلها تبكي علي صاحب الفضل عليها.. أين تمثال نجيب محفوظ في حديقة الأوبرا؟!.. وبورتريه في الصالة الكبري؟!.. أين اسمه علي أحد شوارع حي الدقي. الذي قضي فيه كل حياته؟!.. لماذا لم يطلق اسمه علي مكتبة مصر الكبري؟!.. سأتوقف عن البكاء علي قلعة مطبوعة علي ملايين الورق.. أعمالها علي كل أنواع الشاشات.. أبكي علي الثقافة المصرية. التي نسيت القمم.. وإلي الغد بإذن الله.