المصريون
جمال سلطان
معركة الرئاسة ومجلس الدولة ودلالاتها
لا توجد أي قيادة سياسية حكيمة تقرر خوض معارك داخلية أو خارجية بدون أي جدوى فعلية أو بجدوى ضعيفة لا تساوي التكاليف الباهظة لتلك المعركة ، لا يعقل أن يخوض أحد معركة اعتباطية بدون أي حسابات منطقية أو ضرورة أو حاجة ملحة ، خاصة إذا كان خوضها يحمل مخاطرة من أي نوع ، ولكن هذا ما حدث في المعركة التي فتحتها مؤسسة الرئاسة مع القضاء ، بطرح مشروع تعديل قانون القضاء ليسمح للرئيس باختيار رؤساء الهيئات القضائية من ثلاثة مرشحين بدلا من اعتماد المرشح الذي تقرر كل هيئة انتخابه أو ترشيحه وفق قواعد مستقرة تعتمد الأقدمية المجردة عن الهوى والغرض ، وهو القانون الذي حار الخلق في فهم مبرراته وأسبابه ، من فرط غرابته ، ورجح كثيرون أنه تم تفصيله خصيصا لاستبعاد قاض بعينه من رئاسة مجلس الدولة .
البرلمان قام بتمرير القانون بسرعة خاطفة ، وقرر الرئيس التصديق عليه بسرعة أكبر ، ونشروه في الجريدة الرسمية منتصف الليل لكي ينتهي أي كلام أو مراجعة حوله ، ورفض السيسي مقابلة القضاة الذين تقدموا بطلب لمقابلته لشرح وجهة نظرهم ، هي معركة إذن ، ووضح للجميع ، القضاة وغيرهم ، أن السلطة التنفيذية داست على كرامتهم وأهانتهم وأرادت أن تظهرهم كمجرد موظفين تابعين للسلطة التنفيذية ، وأنهم بلا استقلالية حقيقية ، وأن السلطة يمكنها ترتيب شئونهم وتعديلها رغما عنهم ، هذا وضع مهين ، وحتى مع نجاح الرئاسة ـ شكليا ـ في تمرير القانون وفرضه بالقوة على القضاة ، إلا أنه أحدث شرخا كبيرا في مؤسسة العدالة ، وشحن النفوس بالغضب ، وكل ذلك لم يكن من المتصور أن يمر بطبيعة الحال ، وقد تفادى القضاة الكارثة بإعلان رفض القانون من حيث المبدأ ، وهو ما كان يعني صداما غير مسبوق بين سلطات الدولة قد يفضي إلى انهيارها في النهاية لو ركب كل طرف رأسه ، ولكن يبدو أن القضاة رأوا أن يردوا على إهانتهم واستباحة استقلال القضاء بطريقة قانونية وأقل خشونة وأكثر حرصا على حماية الدولة من التصادمات الخطيرة .
الجمعية العمومية لمجلس الدولة قررت أمس ترشيح المستشار يحيى الدكروري وحده ، وليس ثلاثة ، ليرسلوه إلى رئيس الجمهورية لاعتماده رئيسا لمجلس الدولة ، باعتباره أقدم الأعضاء سنا ، وعلى الرغم من أن هذا القرار قد يسمح للرئيس بالاستفادة من مادة بالقانون الجديد تتيح له أن يتجاهل ذلك ويختار واحدا من أقدم سبعة مستشارين في مجلس الدولة ليصدر قرارا بتعيينه رئيسا للمجلس ، إلا أن هذا الأمر سيكون مخاطرة أسوأ كثيرا من قبول اعتماد المستشار الدكروري ، لأنه قد يحدث ـ وهو المرجح ـ أن يعتذر من يختاره السيسي ، لأنه ـ كقاض ـ يدرك أن الاختيار مخالف للأعراف القضائية ، ويفتقر لمنطق العدالة والحيدة والأقدمية ، وسيجعل من صورته وموقعه في الأسرة القضائية سيئا للغاية ، وبالتالي فاعتذاره سيضع السيسي في مأزق آخر ، ويظهره في صورة الرئيس المعاند للقضاء والمفتعل للمعارك عامدا متعمدا مع مؤسسة العدالة ، وهذا سيرسل رسالة في الداخل وفي المجتمع الدولي خطيرة للغاية عن إهانة السيسي للقضاء .
أيضا ، في حالة تخطي السيسي للأقدم سنا في اختياره ، وهو المستشار الدكروري ، يمكن بسهولة تحريك دعوى قضائية أمام مجلس الدولة نفسه ، ستنتهي حتما بإبطال قرار رئيس الجمهورية ، وتلزمه ـ بحكم القضاء ـ باختيار أقدم الأعضاء سنا .
هذه المخاطر المحتملة كلها ، كان في غنى عنها السيسي ، وفي غنى عنها مصر التي لا ينقصها مشكلات وهموما وتحديات جسام ، اقتصادية وأمنية وسياسية ، وكان يفترض أن رئيس الجمهورية لا يملك "ترف" الخوض في تلك المعارك المفتعلة التي تستنزفه وتشوه صورته وتفخخ العلاقة بينه وبين مؤسسات الدولة نفسها ، ولكن هذا يتحمله تلك الدائرة الصغيرة حوله ، والتي من الواضح أنها منعزلة عن السياق العام في الدولة ومنغلقة على ذاتها ، ولا تملك رؤية حقيقية خبيرة لمنطق إدارة الدولة ، كما لا يجرؤ أحد في أجهزة الدولة على نصحها أو مراجعتها فضلا عن انتقادها .
السيسي ـ فيما يبدو ـ يتعرض لضغوط إقليمية ودولية لسرعة تمرير مشروعات بعينها ، ولكن تحقيق ذلك يقتضي أن يكون قراره نافذا وغير قابل للمراجعة في الداخل ، غير أن الأوضاع في مصر ، رغم كل ما تكسر ، تعوق ذلك وتمنع "الانفراد" التام بسلطة القرار ، خاصة في قضايا عالية الحساسية ، والتحدي هنا شعبي ومؤسسي ، الشعبي ولد حزمة من الإجراءات السلطوية العنيفة والمبالغ فيها جدا تجاه القوى الشعبية التي ما زالت ترفض الاستسلام ، والمؤسسي لم يبق منه إلا القضاء ، وهو عائق حقيقي ومربك لانفراد الرئيس بالقرارات المصيرية ، فهل هذا الضغط النفسي والعصبي ، وسباق الوقت ، هو الذي يدفع إلى "ابتكار" قوانين وقرارات بأمل أن تكسر ذلك التحدي ، فتتسبب في زيادة الأمر سوءا ، ربما .
تعليقات
اقرأ ايضا
الصحف