الأخبار
محمد السعدنى
مصر: ملكة الحد الأوسط والأزمة الفارقة
لعلي أتفق مع كثيرين يرون مثلي أن مصر »ملكة الحد الأوسط»‬ وهي »‬سيدة الحلول الوسطي». وسط في الموقع والدور الحضاري والتاريخي، في الموارد والطاقة، في السياسة والحرب، في النظرة والتفكير، وسط في الحداثة والأصالة والمعاصرة، ولعل في هذه الموهبة الطبيعية سر بقائها وحيويتها وتنوع قواها البشرية عبر العصور ورغم الظروف. غير أن الموضوعية تفرض علينا أن نري الأشياء علي طبيعتها لا كما نحب أن نراها، من هنا لابد من اعتراف صريح أننا أمام مجتمع مصري مأزوم تتناوشه أزمة اقتصادية مستحكمة وتستهدفه حركة الإرهاب الدولي من الخارج المترصد والداخل المتربص، وتتكالب عليها معضلات ضعف معدلات التنمية، وتصحر السياسة وضعف البني المؤسسية للأحزاب وانغلاق المحيط السياسي العام ومصادرة حركة الإبداع والتحديث بسبب الحرب الحقيقية التي تخوضها ضد الإرهاب، علي أن أزمة المجتمع المصري ليست بمعناها الاقتصادي - الاجتماعي وحدها، بل بمعناها السياسي أيضاً، فالمجتمع المصري لا تتلخص أزمته في ارتفاع الأسعار وتدني الخدمات ومستويات المعيشة وحدهما، ولا بزيادة الدين العام داخلياً وخارجياً، ولا بعجز الموازنة فحسب، لكنه مجتمع يري أن قدرات مصر ومقوماتها وثورتيها »‬25-30» كانت تؤهلها جميعاً لوضع في حده الأدني ينبغي أن يكون حاله أفضل وأحسن مما هي فيه. من هنا تتجلي الأزمة، أضف إلي ذلك أن تجربة الحرب الطاحنة مع الإرهاب في سيناء وتناميها إلي تخوم الدلتا بعد أن ضيق الجيش الوطني علي الإرهابيين في مواقع تمركزهم وبعد عملية اختراق والسيطرة علي جبل الحلال في ضربات موجعة، بدأ الإرهاب يستهدف جبهتنا الداخلية وكنائس إخواننا المسيحيين لكسر تماسك الجبهة الوطنية، ما اقتضي فرض الطوارئ لمدة ثلاثة شهور، وهو أمر رأي فيه البعض ضرورة لابد منها لمساعدة السلطة علي تطويق التنظيمات الإرهابية وسرعة اتخاذ الإجراءات الوقائية لمنع الجرائم قبل وقوعها، بينما يراها البعض تزيداً من السلطة لا تؤيدها ضرورة ملحة، ويخشي آخرون من تجاوزات الطوارئ التي قد يستخدمها بعض رجال الضبطية القضائية بتعسف ربما يعصف بالحريات العامةً، ويري البعض أن السلطة تفرض الطوارئ لا لحرب الإرهاب ولكن لقمع المعارضة التي تتنامي يوماً بعد يوم ضد السياسات الحكومية، أو للتحكم في المحيط السياسي العام وإغلاقه ضد التعبير عن الرأي بالتظاهر والتجمعات والاجتماعات، ويصل البعض بالفكرة أن السلطة كانت تنوي فرض الطوارئ لمعالجة ضعف تأييد الشعب الغاضب من السياسات الحكومية وانحيازات النظام ضد الفقراء لصالح الأغنياء، فالسلطة التي عومت الجنيه واستجابت لروشتة وشروط صندوق النقد تحت شعار الإصلاح الاقتصادي، لم تجد غير الفقراء المعدمين ليدفعوا ثمن هذا الإصلاح المزعوم الذي لم تصل فاتورة أعبائه للأغنياء الذين عفتهم السلطة من ضرائب البورصة والضرائب التصاعدية وضريبة رأس المال، بل خفضت عليهم الضرائب العامة من 25% إلي 22.5%. ثم هذا الإصلاح المزعوم تحت شروط صندوق النقد الدولي جربته مصر مرات سابقة مع السادات ومبارك، في حكومات عبد العزيز حجازي، وعاطف صدقي وعاطف عبيد والجنزوري، وأحمد نظيف، ولم يحصد الشعب من نتائجه شئياً يذكر، أو يمكن القياس علي نجاحه ليسوغ لحكومة شريف إسماعيل أن تعيد تجربته المريرة مع شعب لم يتبق له من كفاف الدنيا ما يقيم الحد الأدني من مستويات المعيشة. ويري الكثيرون أن فرض الطوارئ ما هي إلا حركة استباقية لمصادرة المجال العام لصالح السلطة التي تنتوي مع الموازنة المالية الجديدة في يوليو القادم زيادة أسعار الكهرباء والطاقة، وبالتالي تزيد معها الأسعار وترتفع معدلات التضخم الأمر الذي من المحتمل أن يواجهه الشعب بالتظاهر.
وفي تقديري كلها أسباب وجيهة، لكن ليس هناك دليل ملموس يؤكد صحة هذه التوقعات، اللهم إلا بالقياس والاستدلال بسوابق التجارب مع حكومات إبراهيم محلب وشريف إسماعيل المفارقة للواقع والمخاصمة للفقراء المنحازة بشكل واضح للرأسمالية المتوحشة. علي أن ما يمكن أن يدحض كل هذه التخوفات أن السلطة لا يغيب عنها كون الطوارئ التي فرضها نظام مبارك ثلاثين عاماً لم تحمه من ثورة الشعب في 25 يناير، وأن القضاء رغم تحرش مجلس النواب الموالي للحكومة أكثر من ولائه للشعب به، لايزال ضمانة حقيقية للعدالة، وأن الشعب الذي عف طويلاً عن المشاركة السياسية في ظل نظام مبارك، أصبح طرفاً فاعلاً في معادلة السياسة وإن لم تنتبه بعض مؤسسات الدولة وأجهزتها لهذه الحقيقة بشكل كاف. وهنا تتجلي صعوبة الأزمة الفارقة. ولعل الشعب مايزال يراهن علي رأس السلطة الذي أعطوه تأييدهم ومولوا مشروعه لقناة السويس بقروشهم ومدخراتهم، ويحدوهم الأمل في أنه يغير قواعد اللعبة مع القرارات الجديدة ويعيد للشعب اعتباره ويرد له حقوقه. إن المجتمع المأزوم رغم كل متاعبه لايزال في خندق الدولة مناضلاَ ومنافحاً ومدافعاً، رغم استفزازات الإعلام الموالي للسلطة، ولايزالون يرجون أن يخيب الرئيس ظنونهم ومخاوفهم من الطوارئ ويرفع عن كاهلهم متاعبهم وأزماتهم، وهذا ليس بعيداً عن مصر »‬سيدة الحلول الوسطي»، هذا وإلا فالبدائل غير مرضية ولا آمنة. وفي تقديري أن الأزمة الفارقة ليست بسبب الطوارئ التي لم نرصد استخدامها حتي الآن ضد الحريات العامة، ولكن الأزمة تكمن في السيولة السياسية للمجتمع المصري الذي يبدو كمن ضربه إعصار اللامعقول ومخاصمة الموضوعية، وانظر حولك لتري من يكفر إخواننا المسيحيين دون مقتضي، ومن أهانت الأستاذية بسلوكها المنفلت وأفكارها المعطبة، تعلن خوضها الانتخابات الرئاسية وكأن الدولة هانت واستبيحت، إنها علامات الأزمة، ومن حسن الطالع أن جميعها بالونات فارغة لا تصمد أمام وطن رصيده الحضاري أكبر من أن تتقاذفه الرياح حتي لو عمل عليها المغامرون والجهلاء.
تعليقات
اقرأ ايضا
الصحف