سأبدأ بالعبارة التي قالها الرئيس الأمريكي السابق باراك أوباما لوسائل الإعلام. عند استقباله الرئيس عبد الفتاح السيسي بنيويورك علي هامش اجتماعات الجمعية العامة للأمم المتحدة في سبتمبر 2014..
- قال أوباما: ¢إن العلاقات المصرية الأمريكية هي حجر الزاوية للسياسة الأمريكية في الشرق الأوسط¢..
- هذه العبارة لم تكن علي سبيل المجاملة للرئيس عبد الفتاح السيسي.. بل كانت تشخيصا دقيقا لطبيعة العلاقات المصرية الأمريكية علي مدي العقود الماضية. بما في ذلك فترات الفتور أو الازدهار..!
- لعلنا في حاجة الي القراءة المتأنية لتاريخ هذه العلاقات.. لكي نكتشف كل زوايا الحقيقة التي اختفت بعض ثناياها في ظلال الخلافات السياسية..
- هذا بالضبط ما دفعني لبدء سلسلة مقالات ¢مصر وأمريكا¢ التي نشرت الحلقة الأولي منها في هذا المكان يوم 3 أبريل الماضي.. ثم توقفت عن استكمالها تحت ضغط الأحداث التي فرضت علي متابعتها بالرصد والتحليل. كالضربة الأمريكية لمطار ¢الشعيرات¢ السوري. وتصاعد الأزمة الكورية..
- اليوم أعود لاستكمال القراءة المتأنية للأحداث البارزة في تاريخ العلاقات المصرية الأمريكية.. خاصة تلك التي صنعت أزمات بين الدولتين..
***
من بين هذه الأحداث.. كانت مسألة تمويل بناء السد العالي التي تحولت إلي أزمة بين القاهرة وواشنطن..
* قصة هذه الأزمة بدأت عندما طلب الرئيس جمال عبد الناصر من الولايات المتحدة المساعدة في تمويل بناء السد العالي. الذي كانت تقدر تكاليفه ذلك الوقت ب 1,3 مليار دولار أمريكي.. فوعده وزير الخارجية الأمريكي جون فوستر دالاس بالمساهمة بجزء صغير من التكاليف هو 50 مليون دولار فقط.. وتطلع عبد الناصر إلي البنك الدولي لتغطية باقي التكاليف..
* غير أن لجنة الاعتمادات بمجلس الشيوخ الأمريكي أصدرت قرارا يوم 16 يوليو 1956.. تحت ضغط من أصدقاء اسرائيل.. بحظر استخدام أي مبالغ من برنامج الأمن المتبادل في تمويل السد العالي..
* جاء هذا القرار في وقت كان فيه عبد الناصر قد بدأ يضبط بوصلته السياسية باتجاه موسكو.. لأنها سلحت جيشه مقابل قطن مصري. بينما رفض الغرب بيعه الأسلحة. كما أوضحت في الحلقة الأولي من سلسلة هذه المقالات يوم 3 أبريل الماضي..
* جاء أيضا في وقت يشن فيه عبد الناصر هجوما ضاريا علي حلف بغداد. الذي تعتبره الولايات المتحدة حلقة في سلسلة الأحلاف العسكرية التي تطوق بها الاتحاد السوفييتي..
* لذلك تجاوبت الإدارة الأمريكية سريعا مع قرار لجنة مجلس الشيوخ وسحبت موافقتها علي تمويل بناء السد العالي بحجة ضعف الاقتصاد المصري. وعدم قدرته علي تحمل تكاليف مشروع بهذا الحجم.. وشرحت ذلك في بيان أصدرته وزارة الخارجية الأمريكية يوم 19 يوليو 1956.
* البنك الدولي سار علي خطي الإدارة الأمريكية ورفض تمويل مشروع السد العالي.. !
* جاء رد جمال عبد الناصر سريعا.. أعلن يوم 26 يوليو 1956 تأميم شركة قناة السويس.. من أجل الحصول علي أموال لبناء السد العالي..
***
تأميم القناة لم يزعج الولايات المتحدة ولم تعتبره عملا موجها ضدها.. وعلي هذا الأساس بنت موقفها من العدوان الثلاثي علي مصر..
* العدوان الثلاثي بدأ بدخول القوات الإسرائيلية سيناء يوم 29 أكتوبر 1956.. وأبلغت اسرائيل الرئيس الأمريكي أيزنهاور بأنها عملية محدودة تستهدف إزالة قواعد الفدائيين المصريين في شبه جزيرة سيناء.
* الأمريكيون اكتشفوا المؤامرة بسرعة.. واكتشفوا أن اسرائيل خططت لها مع كل من فرنسا وبريطانيا من وراء ظهر الولايات المتحدة.. وأن الهدف منها هو الاستيلاء علي قناة السويس والإطاحة بجمال عبد الناصر..
* لعلنا هنا نلاحظ توقيت بدء تنفيذ العدوان الثلاثي علي مصر. الذي يبدو جليا أنه تم اختياره بدقة شديدة ليأتي قبل أيام قليلة فقط.. أو لنقل ساعات.. من انتخابات الرئاسة الأمريكية التي كان أيزنهاور يخوضها لولاية ثانية عن الحزب الجمهوري. ضد أدلاي ستيفنسون عن الحزب الديمقراطي وهو نفس المرشح الذي نافس أيزنهاور في انتخابات 1952. وكان يحظي بدعم كبير من الجماعات اليهودية في الولايات المتحدة "المعروف أن انتخابات الرئاسة الأمريكية تجري في الأسبوع الأول من شهر نوفمبر كل 4 سنوات"..!
* إذن.. فتوقيت دخول القوات الإسرائيلية سيناء. كان يوفر فرصة كبيرة لأيزنهاور للتصالح مع اليهود وكسب تأييدهم له في الانتخابات.. لو أنه بارك العملية الإسرائيلية. أو علي الأقل غض الطرف عنها..
* رغم ذلك.. لم يحاول أيزنهاور في هذا التوقيت القاتل استرضاء اليهود ولم يعبأ بأصواتهم.. إنما تحرك بسرعة وكلف وزير خارجيته جون فوستر دالاس بالتقدم الي مجلس الأمن الدولي بمشروع قرار يلزم اسرائيل بالعودة إلي ما وراء خطوط الهدنة. ويطالب كلا من فرنسا وبريطانيا بعدم الاعتداء علي مصر..
* فرنسا وبريطانيا استخدمتا حق الفيتو لإفشال مشروع القرار الأمريكي. وقامتا بالهجوم علي مصر في الأول من نوفمبر 1956..!
* كان أيزنهاور غارقا حتي أذنيه في الانتخابات.. وكانت حسابات إسرائيل وفرنسا وبريطانيا تقوم علي أساس أن مصلحة الرجل الانتخابية ستمنعه من الوقوف ضدهم.. لذلك اختاروا هذا التوقيت بالذات..
* لكن الرجل كانت له حسابات أخري.. كان يريد تحقيق سلام عادل وشامل في الشرق الأوسط.. ويعتبر أن ذلك لا غني عنه لتقليص النفوذ السوفييتي في المنطقة..
* كان الرجل أيضا غاضبا ومتألما.. لأن المؤامرة علي مصر تمت من وراء ظهره.. وفي نفس الوقت يصعب عليه استثارة الأمم المتحدة ضد فرنسا وبريطانيا حليفتيه بالأمس في الحرب العالمية الثانية..
* هذا الغضب نراه واضحا في قول أيزنهاور لجون فوستر دالاس : ¢يا فوستر أبلغهم عليهم اللعنة.. سنطبق عقوبات.. سنذهب الي الأمم المتحدة.. وسنفعل كل شيء ممكن حتي يمكن أن نوقف هذا الأمر¢..!
* كما قال أيزنهاور بعد ذلك يشرح الموقف : ¢لقد أبلغنا الإسرائيليين أن الأمر لا يمكن بحال الدفاع عنه. وأنهم إذا كانوا يتوقعون مساندتنا في الشرق الأوسط وفي الحفاظ علي وضعهم.. فإن عليهم أن يستحوا.. لقد انبرينا لهم وبدأنا في تضييق الخناق عليهم¢..
* الموقف الأمريكي نراه واضحا أيضا في يوميات موشي دايان التي كتبها يوم 29 أكتوبر 1956.. كتب يقول : ¢الموقف مع الولايات المتحدة معقد وغير مقبول بالمرة.. إن إسرائيل الحريصة علي أوثق العلاقات الودية مع الولايات المتحدة.. تجد نفسها الآن في موقف صعب.. حيث يتعين عليها أن تخفي عنها حقيقة نواياها.. إن الولايات المتحدة تعارض بحسم القيام بأي عمل عسكري من جانب اسرائيل.. وأنا شخصيا مذهول من هراء كلمات الرئيس الأمريكي في برقيتيه "في 27 و29 أكتوبر1956" اللتين يلح فيهما علي أن التناول السلمي الهادئ هو وحده الذي يمكن أن يؤدي إلي تحسين الموقف¢..
***
* هذا الموقف الأمريكي الرافض بقوة للعدوان الثلاثي علي مصر.. كان بمثابة ¢السندان¢ الذي عمل مع ¢مطرقة¢ الإنذار الذي وجهه الاتحاد السوفيتي يوم 3 نوفمبر 1956 الي كل من فرنسا وبريطانيا واسرائيل.. وجاء فيه : ¢إن الحكومة السوفيتية مصممة علي استخدام القوة لكي تسحق المعتدين وتعيد السلام إلي الشرق الأوسط¢..
* بين ¢المطرقة ¢ و¢السندان¢.. استسلمت الدول الثلاث وأعلنت يوم 6 نوفمبر 1956 وقف جميع العمليات العسكرية ضد مصر..
* بدأت بعد ذلك فرنسا وبريطانيا في سحب قواتهما.. لكن اسرائيل التي أسعدها نجاح قواتها في اجتياح سيناء. لم تكن تريد التراجع عن هذه الخطوة.. كانت تود الاحتفاظ بشرم الشيخ وقطاع غزة علي الأقل.. وقال رئيس وزرائها ديفيد بن جوريون : ¢إن إتفاقية الهدنة مع مصر ماتت ودفنت.. ولايمكن إعادة الحياة إليها.. وتبعا لذلك فإن خطوط الهدنة بين إسرائيل ومصر لم تعد لها أي صلاحية¢..!
* يوم 2 فبراير 1957 صدر قرار من الجمعية العامة للأمم المتحدة يطالب إسرائيل بالانسحاب من سيناء. ويهدد بفرض عقوبات عليها إذا لم تنسحب. ويدعو إلي تمركز قوة لحفظ السلام تابعة للأمم المتحدة علي طول الحدود المصرية الإسرائيلية. ويكفل حق ¢المرور البري¢ للملاحة الإسرائيلية في خليج العقبة..
* رفض بن جوريون تنفيذ القرار..!!
***
مازال للحديث بقية إن شاء الله تعالي.. عن الدور الذي قام به الرئيس الأمريكي أيزنهاور لإرغام إسرائيل علي الانسحاب من كامل أراضي سيناء..