لم أدهش من ذلك التطور الذى حدث فى غضون الأسبوعين الماضيين فى اليمن، أو بالأحرى فى المحافظات الجنوبية، حيث شكل عيدروس الزبيدى محافظ عدن السابق، الذى أقاله الرئيس هادى منصور من منصبه، مجلسا انتقاليا لجنوب البلاد باسم «هيئة رئاسة المجلس الانتقالي الجنوبى» يضم 26 عضوا، واعتباره الممثل الوحيد لشعب الجنوب فى الداخل وفى الخارج. وهو تطور يجسد رغبة قطاع مهم من سكان المحافظات الجنوبية فى الانفصال واستعادة الدولة القديمة المعروفة باسم جمهورية اليمن الديمقراطية الشعبية. وفى مكالمة هاتفية مع أحد الأكاديميين المقيمين فى عدن أكد لى أن هذا هو الحل الأمثل، لأن الجنوبيين لم يعودوا قادرين على تحمل تبعات الصراع بين القوى السياسية الشمالية والذى يجعل دولة الوحدة مجرد وهم، بل عبء كبير يدمر ثروات الجنوب لحساب حرب لا نهاية لها. واستطرد هذا الاكاديمى قائلا إن الانفصال ليس حلا للجنوب فقط، بل أيضا للشمال وللدول العربية التى تدير الشأن اليمنى، وأمن البحر الأحمر. مثل هذا الرأى بات شائعا لدى قطاع كبير من نخبة المحافظات الجنوبية، وهم الذين يرون أن وجود الرئيس هادى على رأس الدولة وهو من الجنوب، لا يعنى شيئا لطموحات الجنوبيين، فعلى الرغم من أن 80 بالمائة، وربما أكثر من المناصب الرفيعة فى السلك الدبلوماسى يشغلها يمنيون جنوبيون، و60 بالمائة من الوزراء هم الجنوب، فإن الجنوبيين لا يهتمون بمثل هذه الأرقام والنسب، بل يهتمون بأن يسود السلام والاستقرار.
مثل هذا المنطق السياسى يعنى أن الجنوب لم يتعافى من أثار ما يصفه الشماليون إبان حكم الرئيس المخلوع صالح بحرب الوحدة1994، ونتج عنها انتهاك كل الأعراف والحرمات للجنوب ككل، وأفرزت كما هائلا من المظالم الفردية والجماعية، ورسخت شعورا بالغبن والإذلال ما زالت تبعاته موجودة فى نفوس الكثيرين. وهو الأمر الذى سهّل بلورة ما عرف بالحراك الجنوبى يونيو 2007، كحركة شعبية مطلبية بدأت عفوية ثم تطورت لتكون حراكا منظما ينشد رد الحقوق وإنهاء المظالم مع البقاء فى ظل الدولة الاتحادية. ومع تغافل نظام صالح عمدا عن الاستجابة لمطالب الحراك، تطورت الحركة الى المطالبة بالعودة الى ما قبل الوحدة، وبات كثيرون ينظرون الى اليمنيين من أصول شمالية باعتبارهم قوة احتلال سيأتى اليوم الذى سيخرجون فيه من الجنوب. وبعد ثورة الشباب مارس 2011، وإنهاء حكم الرئيس صالح وخروجه من المعادلة السياسية رسميا، مع استمراره واقعيا كما وضح فى تحالفه مع الحوثيين والانقلاب على شرعية الرئيس هادى، فقد اعترفت الدولة اليمنية بالمظالم التى تعرض لها الجنوبيون وتعهدت كما استقر الاتفاق فى الحوار الوطنى طوال عام 2013 وعدة أشهر من 2014بأن تعوضهم وأن تعيد حقوقهم المادية والمعنوية وأن تفسح للجنوب مساحة مناسبة فى الحكم وصنع القرار، إلا أن مشاعر المظلومية ظلت سائدة لدى الجنوبيين، أو على الاقل بقيت مشاعر الشك فى قدرة الدولة على الوفاء بتعهداتها. وكنت قد شاركت فى ورشة عمل عقدت فى صنعاء صيف 2013 لمناقشة الخلاصات المتعلقة بالجنوب، وشارك فيها عدد كبير من مثقفى الجنوب وآخرين من المجموعات التى أسهمت فى الحوار الوطنى ومندوبين من الدول دائمة العضوية فى مجلس الأمن الراعية للحوار الوطنى اليمنى، ودول أوروبية اخرى، وقد لاحظت فى مداخلات المثقفين والأكاديميين من محافظات الجنوب نوعا من الحنين لتجربة اليمن الديمقراطى، وشعورا بأنهم تحملوا الكثير من أجل الوحدة قبل قيامها وتحملوا أكثر وأكثر بعد قيامها. ومن المهم ملاحظة أن الانقلاب الحوثى وحليفه الرئيس المخلوع صالح، قد أتاح للجنوبيين فرصة لم يكونوا يحلمون بها، فقد انشغلت الدولة وسلطتها الرسمية فى مواجهة تداعيات الانقلاب الحوثى، ثم حدثت عاصفة الحزم، ولم يعد هناك جيش يمنى فى الجنوب حيث شُغل ما تبقى منه مواليا للرئيس هادى فى مطاردة الحوثيين فى المحافظات الشمالية، وحدث فراغ سلطة واسع المدى، استغلته مجموعات التطرف فى العمل بحرية وفى ترسيخ وجودها فى أكثر من مدينة جنوبية،مما استدعى من الجنوبيين العودة إلى تراثهم القديم فى إدارة الدولة بعيدا عن نفوذ العاصمة صنعاء التى لم يعد لها تأثير فى الشأن الجنوبى، وترددت شائعات حول دعم ومساندة دول من التحالف العربى لاستقلال الجنوب اليمنى باعتباره مخرجا من الأزمة اليمنية.فى ظل هذه البيئة وفى ظل محدودية وجود رموز الرئيس الشرعى ووزرائه فى العاصمة عدن، ترسخ الاتجاه الداعى إلى الانفصال مستندا الى أن الجنوبيين بالفعل يديرون واقعهم بأيديهم، فى حين أنهم لا يسيطرون على الموارد والثروات الموجودة فى أراضيهم. وبالتالى أصبح الانفصال أكبر من مجرد حركة مطلبية لم يتحقق منها شئ.غير أن تحقيق الانفصال ليس بالأمر السهل، فهو قرار قبل أن يكون يمنيا، هو قرار دولى وإقليمى بالدرجة الأولى، والاتجاه السائد هو ضد الانفصال. والأولوية ما زالت لإنهاء الانقلاب الحوثى واستعادة العاصمة صنعاء كعاصمة لعموم اليمن. وقد يأخد الأمر بعض الوقت مما يرسخ أكثر مطلب الانفصال الجنوبى لاسيما فى ضوء ضعف الأداء السياسى والتنموى لحكومة الرئيس هادى.