تستعد فرنسا لمرحلة جديدة من التغييرات الحزبية الواسعة بعد تولي إيمانويل ماكرون منصب رئيس الجمهورية.. فقد أحدث هذا الشاب - 39 عاماً - حديث العهد بالعمل السياسي حالة مدهشة من الحراك داخل الأحزاب ستضطرها إلي تطوير أفكارها ومبادئها وبرامجها لكي تواكب الزلزال الذي جاء به إلي الرئاسة.. وجعل غالبية الشعب الفرنسي تمنحه أصواتها.
ومعروف أن ماكرون لم يترشح للرئاسة من خلال أي من الأحزاب الكبيرة المشهورة.. وإنما شكل حركة سياسية جديدة تحمل اسم "إلي الأمام" ووضع لها محددات فكرية تتناسب مع احتياجات وتطلعات المواطن الفرنسي وحقق بهذه الأفكار أكثر من 65% من الأصوات.. وهي نسبة مرتفعة جداً في انتخابات الدول الديمقراطية.. بل تعد اكتساحاً.. لأن الفوز هناك عادة يكون بـ 51% ولا تعرف انتخاباتهم ومنافساتهم حكاية الـ 90% فما فوق.. وقد شعرت الأحزاب التقليدية القديمة بوطأة الهزيمة وبدأت تفكر جدياً في أسبابها وكيفية تطوير نفسها بما يتفق مع الواقع الجديد والفكر الجديد الذي هز ثوابت الحياة السياسية.
وزاد من دواعي التطوير والتغيير أن بعض السياسيين المشهورين ممن يستعدون لخوض الانتخابات التشريعية المقبلة في أواسط يونيه القادم أعلنوا أنهم سيترشحون علي قوائم "حركة ماكرون".. وهو ما يعني اقتناعهم بالفكر الجديد واندماجهم فيه بدلاً من أحزابهم التي شاخت وتكلست ولم تعد أفكارها ومبادئها تتواءم مع معطيات العصر ومشاكله وتحدياته.
ولا يمكن أن نتصور أن هؤلاء السياسيين المرموقين هرولوا إلي حزب الرئيس من أجل المناصب والمكاسب والزيت والسكر والأرز.. هؤلاء القوم لا يعرفون هذه اللعبة المصرية العتيقة لأنهم ببساطة ليسوا في حاجة إلي الرئيس ورضا الرئيس وحزب الرئيس.. كل واحد منهم لا يقل شيئاً عن الرئيس.. وإنما هم في حاجة إلي المواطن وصوت المواطن.. وقد ثبت أن هذا المواطن تفاعل مع "حركة ماكرون" بأكثر ما تفاعل مع أي حزب آخر من الأحزاب العريقة القديمة من أقصي اليمين إلي أقصي اليسار وما بينهما.. ولذلك تقوم هذه الأحزاب ايضا بمراجعة أفكارها وتطوير برامجها حتي لا تهمش وتنقرض.
وربما يكون في هذا المناخ السياسي ما يشابه مناخنا.. فنحن نعاني ايضا من أزمة سياسية حادة ومزمنة بسبب ضعف الأحزاب وضعف التنشئة الحزبية.. ومن ثم فإننا نفتقد المنافسة الحقيقية في ميدان الأفكار والمبادئ والبرامج.. وكلنا يشكو من الركود والجمود.. وكثيرون عندنا يرون أن الأزمة السياسية تسبق الأزمة الاقتصادية والاجتماعية والأمنية.. وعندما نجد حلاً جاداً وعادلاً ودائماً للأزمة السياسية سوف تجد بقية الأزمات طريقها للحل.
وتكمن الأزمة السياسية في أن أحزابنا كلها كرتونية ضعيفة بدرجات متفاوتة.. ليس لها تواجد في الشارع.. ولا تقوم علي أفكار ومبادئ وبرامج جاذبة.. ومن له منها أفكار ومبادئ وبرامج فهي قديمة جداً.. وسلفية جداً.. وماضوية جداً.. فقدت بريقها منذ زمن بعيد ولم يدخل عليها أي تحديث.. ولم تفكر هذه الأحزاب في تطوير مبادئها وبرامجها بما يناسب العصر.. وصدق من قال إن أحزابنا يحكمها من في القبور.
أما الأحزاب الحديثة التي نشأت بعد الثورة فأغلبها اعتمد علي التمويل وشراء الأعضاء والمرشحين والأصوات والنواب.. ومن ثم لا يعرف شيئاً عن الأفكار والمبادئ والنضال السياسي.. والمال لا يصنع الأحزاب وحده.
ولدينا أحزاب مسجلة في الأوراق الرسمية لكنها ليست مسجلة عند المواطنين.. ولذلك فهي لدي الشارع بلا هوية.. ليس لها مبدأ ولا موقف ولا برنامج.. هي أحزاب شخصية للتكسب من العمل السياسي.. لا تزيد عن شقة ولافتة وجريدة.. ومثل هذه الأحزاب خطرها عظيم علي العمل السياسي والديمقراطي.. لأنها دائما ما تكون جاهزة لبيع نفسها واسمها وصوتها لمن يدفع أكثر.. فهي تفسد العمل السياسي ولا تنفعه أو تضيف إليه.
وليس صحيحاً أن المصريين لا علاقة لهم بالعمل السياسي والحزبي.. هذه فرية سخيفة.. المصريون عاشوا في النصف الأول من القرن الماضي - تحت الاحتلال - حياة سياسية وحزبية مشهودة.. لم تكن مكتملة 100% لكنها كانت بداية جيدة يمكن البناء عليها.. وللأسف لم يتم البناء عليها وإنما تم اغتيالها واستئصالها.. كي نظل في الفراغ الذي نتخبط في دواماته حتي الآن.