الأهرام
احمد عبد المعطى حجازى
لا ألوم ولا أستغرب
لا ألوم الشيخ سالم عبدالجليل على ما قاله عن المسيحية التى وصفها بأنها عقيدة فاسدة وعن المسيحيين المصريين الذين وصفهم بأنهم كفار، لا ألومه ولا أستغرب ما قاله لسبب بسيط هو أن ما وقع فيه ليس إلا تعبيرا مباشرا عن مناخ عام سائد وليس إلا عرضا لهذا الوباء الذى انتشر فى بلادنا من أقصاها إلى أقصاها منذ عقد السادات صفقته المميتة مع الإخوان الإرهابيين وأطلق لهم العنان يعيثون فى أرضنا فسادا ويعيدونها إلى ما كانت عليه فى عصور الظلام التى خضعنا فيها للغزاة والطغاة وفقدنا فيها تاريخنا وثقافتنا وإنسانيتنا،
فلا عقل، ولا علم، ولا حرية، وانما كل قول وكل فعل بفتوى يتصدى لها العارف والجاهل والهاوى والمحترف ويرجعون جميعا فيها للكتب الصفراء والنصوص الميتة التى تتحكم فى حياتنا الآن فتجعل المسلمين قطعانا تسمع فقط وتطيع، وتجعل المسيحيين كفارا أو فى أحسن الأحوال ذميين أى أسرى عفا عنهم الغازى المنتصر ووضعهم وهم أهل البلاد فى حمايته! وتجعل المرأة دمية ناقصة عقل ودين، وتجعل الديموقراطية شركا والتفكير الحر إلحادا.. وتلك هى الثقافة التى حلت محل ثقافة أحمد لطفى السيد، وطه حسين، وعلى عبدالرازق، وقاسم أمين، وهدى شعراوي، ودرية شفيق، وسلامة موسي. وتلك هى الثقافة التى انطقت سالم عبدالجليل بما نطق به، وتلك هى الثقافة التى حملت الإخوان الإرهابيين إلى السلطة، فإن كانوا قد سقطوا فثقافتهم لاتزال متربعة فى كل مؤسساتنا ولاتزال صاحبة الكلمة فى الخطاب الدينى الذى نطالب ومعنا رئيس الجمهورية بتجديده فلا يستجيب لنا الذين يريدون أن يجعلوا الدين سلطة ويجعلوا التفكير فيه احتكارا لا يمارسه غيرهم.

كيف إذن نلوم سالم عبدالجليل؟ وكيف نستغرب ما قاله عن المسيحية والمسيحيين؟!

حين يستنكر بعضنا ما قاله هذا السيد لأن العقيدة الدينية شأن خاص يتجاهل الواقع الذى نعيشه. نحن لا نعيش فى دولة وطنية تفصل بين الدين والسياسة، وتجعل الدين شأنا خاصا، وانما نعيش فى هذا الخلط الذى صار فيه الدين هوية للدولة وأساسا للتمييز بين المواطنين.

الذين يستنكرون ما قاله سالم عبدالجليل يتجاهلون أن ثقافة سالم عبدالجليل هى الثقافة التى اقتحمت الدستور وفرضت نفسها على مواده، وعلى القوانين التى اعتبرت التفكير الحر ازدراء للدين، وعلى البرلمان الذى أصدر هذه القوانين، وعلى رئيس جامعة الأزهر الذى أفتى بأن إسلام بحيرى ملحد، وعلى المحجبات اللائى هاجمن السافرات فى المترو وقصصن شعورهن، وهى بالطبع الثقافة التى شجعت من شجعتهم من المصريين على الانضمام لداعش، وهى التى طردت المسيحيين المصريين من سيناء وغير سيناء وفجرت كنائسهم وهم يؤدون شعائرهم الدينية فى القاهرة والإسكندرية وطنطا وغيرها. لهذا لا ألوم سالم عبدالجليل لأنه لا يعبر عن رأى خاص كما قال مجمع البحوث الاسلامية وإنما يعبر عن ثقافة سائدة، ولأنه لم يخترع ما قاله ولم يأت فيه بشيء من عنده، وإنما تعلمه مثل الملايين التى تعلمت فى الأزهر، وحصل فيه على أعلى الشهادات وتدرج فى وظائف الدولة الدينية حتى أصبح قاب قوسين أو أدنى من مقعد الوزير، ثم تجاوز المناصب الحكومية وأصبح نجما تليفزيونيا تنصب صوره فى الشوارع ويتسابق على التعاقد معه أصحاب القنوات ورجال الأعمال ـ هذا السيد يستطيع بكل هذه المؤهلات أن يقول إن المسيحية عقيدة فاسدة، وإن المسيحيين كفار. فإن راجعه أحد على استحياء أعلن هو بكل ثقة استعداده للوقوف أمام هيئة كبار العلماء ليثبت لهم أن ما قاله هو ما تعلمه عندهم. فإن «أثبتوا أنى خاطيء سأخلع عمامتى ولن أتكلم فى الدين مرة أخري»!

ونحن لا نستطيع أن نعارض سالم عبدالجليل فى أن ما قاله هو ما تعلمه، لكننا نستطيع أن نعارضه فى أن ما قاله هو الإسلام. فإذا وجد فى بعض الآيات القرآنية وبعض الأخبار ما يستند إليه فلأنه تجاهل آيات أخري، ولأنه تعلم ألا يرى من الآية إلا ظاهر حروفها، وألا يستند فى فهمها لسبب نزولها الذى يتحرر منه معناها حين يتقدم الزمن وتنشأ ظروف وأطوار جديدة تكشف فى هذه الآيات عن معان أكثر ثباتا نفهمها بالرجوع إلى مقاصد الإسلام ومثله العليا، وما مر بالمسلمين من تجارب، وما عرفه البشر من حقائق وما استخلصوه من مباديء وقوانين تقوم عليها حياتهم فى هذه العصور الحديثة ويتحقق بها ما يستطيعون تحقيقه من أحلامهم ومطالبهم باختصار، لا سالم عبدالجليل ولا الذين علموه فهموا الإسلام كما فهمه مسلمون آخرون وعرفوا أنه مباديء وغايات ومقاصد يجب أن نجعلها دلينا ومرجعنا فى فهم النصوص، ولا فالنص ليس معنى واحدا وانما هو حمال أوجه كما كان يقول على بن أبى طالب، ونحن نختار من هذه الأوجه ما يتفق مع المبدأ ويوصل إلى الغاية.

فإذا كانت المباديء والقيم مرجعنا فلن نرى وخاصة فى هذا العصر الذى نعيش فيه تناقضا جوهريا بين الإسلام وغيره من الديانات التى تقوم على ما يقوم عليه كما نرى فى الآية الثانية والستين من سورة «البقرة»: «إن الذين آمنوا والذين هادوا والنصارى والصابئين من آمن بالله واليوم الآخر وعمل صالحا فلهم أجرهم عند ربهم ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون» وبهذا الفهم تكون كل الديانات صحيحة وإن تعددت لأنها كلها طرق إلى الله لا يعرفها ولا يحكم على أى منها إلا من سار فيها. لأننا فى الدين لا نرجع لمعيار موضوعى واحد نميز به بين الفاسد والصحيح، وإنما نرجع لقلوبنا التى تطمئن لما ورثته وتربت عليه، ونرجع فى حكمنا على غيرنا لأعمالهم التى يشاركون بها فى النشاط العام. أما الدين فهو شأن فردى خاص مهما يكن عدد معتنقيه. الإسلام طريق المسلم إلى الله، والمسيحية، واليهودية، والمجوسية، والبوذية وغيرها طرق أخري. وهذا ما عبر عنه محيى الدين بن عربى حين قال:

لقد صار قلبى قابلا كل صورة

فمرعى لغزلان، ودير لرهبان

وبيت لأوثان ، وكعبة طائف

وألواح توراة، ومصحف قرآن

أدين بدين الحب أنى توجهت

ركائبه. فالحب دينى وإيماني!

أسأل نفسي: هل مرت هذه الأبيات على هذا الشيخ الدكتور النجم التليفزيوني؟ لا أستطيع أن أقول: لا! فهل فهمها؟ لا أستطيع أن أقول: نعم!
تعليقات
اقرأ ايضا
الصحف