سامح عيد
هل من حقنا محاكمة عقائد الآخرين؟
ربما فتح ما قاله سالم عبد الجليل وما تضامن معه فيه عبد الله رشدي، ملفًّا شديد الحساسية، يجب أن يبدأ تداوله، لأننا في عصر المعلومات والسماوات المفتوحة، نحتاج إلى نقاشه على المجال العام للخروج بقوانين ملزمة. العالم يعج بآلاف، إن لم يكن بملايين المعتقدات، والمعتقدات مبنية على الغيب: «الم (1) ذَٰلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ ۛ فِيهِ ۛ هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ (2) الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ (3)» سورة البقرة. إننا نتحدث عمّا ورائيات، عن الميتافيزيقا، ولا يدَّعي أحد أنه قادر على إثبات فساد معتقد وصواب معتقد آخر، فهل سنلغي المعتقد؟ بالطبع لا، فليظل كلٌّ على اعتقاده، ولكن ليس من حقه محاكمة عقائد الآخرين بأي صورة علنية، ربما عليه إقناع أتباعه بمعتقده، ليس بالضرورة بإثبات فساد العقائد الأخرى، لأن وسائل الإقناع ما دامت قد صعدت المنابر فقد أخذت طابع العلانية، وبالطبع فإن أتباع هذه العقيدة أو تلك سيقابلون أقرانهم في أماكن العمل وفي المدارس، وسيتعصبون لمعتقدهم، فبالله عليك، كيف سيتناقش اثنان في أمر ماض كأمر المسيح؟ هل شبِّه لهم ولم يصلب المسيح نفسه بل رفع؟ أو أنه هو الذي صلب ودفن ورفع بعد ثلاثة أيام، خاصة وأننا نؤمن كمسلمين أنه تشبيه، بمعنى أنه ظهر للمقربين كأنه هو؟ أو نتناقش في المستقبل: هل سيظهر المسيخ الدجال الذي يملك المعجزات، ويدعو الناس إلى الإيمان به، أم سيظهر المهدي المنتظر، أم سيظهر المسيح، ولمن سينتصر من سيخرج؟ هل سينتصر للمسلمين أم للمسيحيين أم لليهود- وكل يدَّعي وصلا بليلي- وكل يدَّعي ملكية الخاتمة لصالحه. فالقضية ليست محل نقاش ولا محاورة ولا محاججة، لأنها خارجة عن إطار المحاججة، إلى الإيمان الغيبي، كلٌّ يستند إلى كتابه المقدس أو إلى المرويات اللاحقة للحواريين أو للصحابة ويشكك في كتاب الآخر ومرويات الآخر. الأمر لم يقتصر على هذا، بل إن كل معتقد انقسم داخله في الأمور الأساسية، فالمسيحية انقسمت إلى كنائس، والكنائس إلى فرق، وحتى لا أتكلم عن الآخر، سأتكلم عن الإسلام. ألم ينقسم الإسلام إلى الشيعة والسنة من بداية عهد الراشدين وحتى الآن، وظهرت الخوارج بعد ذلك، ثم ظهر المعتزلة، وظهرت الأشعرية لاحقا، الخلاف ليس فقهيا فقط، ولكن الخلاف امتد إلى العقيدة، طبيعة الوحي وطريقته، وحول القرآن فهناك من يرى أنه مخلوق وثم مَن يرى أنه قديم، وبين التجسيم والتشبيه والمجاز. ثم نشأت الجماعات في العصر الحديث، وتبنت الجماعات الحديثة الخلافات القديمة، وصنعت ميكسات من خلافات الماضي واعتمدتها أسسا اعتقادية، جديدة تفرق بينها وبين الجماعات الأخرى، ثم ظهر التكفير وتكفير من لم يكفر الكافر، واعتبروها من أمور العقيدة، وأطلقت السلفية ما يسمي بتوحيد الألوهية وتوحيد الربوبية، واعتبروها أصولا لسلام المعتقد، وظهر من يقولون بوحدة الوجود وكان لها منظروها الصوفيون الكبار، الحلاج وابن عربي وآخرون، وظهر معتقد شرخ العقيدة، حتى إنه ظهر في وقت من الأوقات من يسيرون في الشوارع لتصحيح عقائد الآخرين، فيقولون للمسلم أين الله، فإذا أشار إلى السماء، فإنهم يجلسون معه لتصحيح عقيدته المشروخة، على أساس أن الله في كل مكان وهو أقرب إليك من حبل الوريد، وبدأت الجماعات المختلفة توجه للجماعات الأخرى اتهامات شرخ العقيدة. إذن نحن نتحدث عن انشطار عقائدي نووي يتزايد يوما بعد يوم بجماعات جديدة وأفكار جديدة.
ونحن نعلم جميعا أن هذه الخلافات لا تزيد العامة إلا ابتعادا عن كل ما هو ديني، وهناك موجة إلحاد وربوبية تتزايد يوما بعد يوم، لأن التعصب بشكل عام منفِّر وعندما يكون العامة معلوماتهم سطحية وغير متعمقة، ويستمعون إلى من يمثلون الأديان بهذه العصبية فإنه يفقد البوصلة، وينتقل إلى مربع الشك، والمنتقلون إلى مربع الشك، ليس من السهل عليهم العودة، ومن يوجدون في مربع الشك يتزايدون يوما بعد يوم، وخاصة أن من يتعصبون ويحاكمون عقائد الآخرين، يدَّعون أنهم يستندون إلى نصوص قرآنية ثابتة، وتفسيرات معتبرة، هنا تكون مساحة الشك أكبر وبخاصة لو اتبع هؤلاء المتشككون التفسيرات السائدة ووجدوا الكلام صحيحا، أقصد تفسيرات وتأويلات أهم المفسرين لتلك النصوص، وميلها للتفسيرات السلبية والمحرضة على الآخر. والموجودون في مربع الشك، يصفون أنفسهم أحيانا بأنهم اللا أدريون، أو ربما لا يفهم هذا الشاب المنشغل بحياته اليومية بالتوصيف، ولكنه يمارس اللا اهتمام واللا تدين في نفس الوقت، وقد ازداد المفطرون في رمضان، وزهد الشباب في المساجد، لا أقول عن عقود مضت، ولكن عن سنوات قليلة مضت، كان التهجد والقيام في رمضان منذ خمس سنوات، يعج بالشباب، الآن تغلب عليه الأعمار الأكبر سنًّا، من دخلوا في العقد الخامس والسادس وما بعده، وتراجع أبناء العقدين الثاني والثالث بشكل ملحوظ. ولأننا شعوب مغلقة وغير متسامحة، من الصعب الوصول إلى نسب واضحة، وخاصة في ظل خطاب سلفي، لا يرى أن هناك حرية في الشك أو في التراجع، وما زالوا يرون أنه يجب عليه الاستتابة ثم القتل، ناهيك بالعقوبات الاجتماعية بمنع زواجه وربما دفنه في مدافن العائلة، إن وافته المنية، ومواجهة عائلية ممتدة، لإعادته إلى جادة الصواب، فينافق ويقبل مضطرا لأنه لا بديل، لا يريد أن يتخلى عن أسرته وأولاده ومجاله الاجتماعي. هذه الحلقة ستكسر لاحقا، لأن هناك جيلا قادما أكثر جرأة وأكثر قدرة على التعبير وبدأت ملامحهم تظهر على السوشيال ميديا بقوة، ولم يكن يتصور أن يخرج في مصر على الإعلام من يعلن إلحاده ويواجه مشايخ في مناظرات، كانت ظاهرة من عامين ولكنها تراجعت بسرعة، وعادوا مرة أخرى إلى التواصل الاجتماعي وقنوات يوتيوب أكثر جرأة وقوة، وهناك مفكرون كبار، ربما يكونون الأكثر أهمية في الوطن العربي، واضحون في رؤاهم، ولكنهم يعلنون أفكارهم مبطنة لا معلنة وصريحة، وأصبح تأثيرهم يتزايد يوما بعد يوم. وهنا يثور تساؤل خطير: هل هناك دورة زمنية للأديان، تتراجع بعدها وتنحسر، الديانة المسيحية بدأت تنحسر بقوة خاصة في أوروبا لصالح الربوبية والإلحاد، والزرادشتية تراجعت إلى مستويات دنيا، فديانة الفراعنة القدماء امتدت 30 قرنا ثم تلاشت، الإله آمون. واليهودية بطبيعتها منحسرة، لأنها ديانة غير تبشيرية، ومدى تدين أفرادها محل شك أيضا، وهل تحولت إلى عصبية قبلية أكثر ما هي ديانة لها أتباع متدينون وحافظون لطقوسها؟ هل يجب أن يدرس الأطفال في مدارسهم تاريخ الأديان وتطورها بمستويات وعمق مختلف حسب كل فئة عمرية، حتى تخرج أجيالا أكثر تسامحا، وأكثر تعقلا، وأقرب إلى التسامح، وأبعد عن العنف. ما فعله سالم عبد الجليل يجب أن يفتح كل هذه النقاشات، مع العلم أن الوقت ليس في صالحنا، فإما إصلاح وتعديل متدرج، وإلا فتغيير ثوري لا تؤمَن عواقبه، على مجتمعات كانت مغلقة، وستنفتح بلا رشد وبلا ضوابط.