ذكرتني حفلة عيد ميلاد الإعلامية لميس الحديدي بما كتبه الطبيب الإنجليزي برنارد ماندفيل في كتابه (حكاية النحل الخرافية) وما يعتقده ومفاده أن أفعال المترفين والأثرياء سبب من أسباب نمو المجتمع. ولولا إنفاقهم وأفعالهم وحبهم للظهور لأغلقت المحاكم ومتاجر الحلى والملابس والبنوك والمطارات والمستشفيات وغيرها، وجلس العُمال والصناع والأطباء والفنانون بدون عمل. ذلك لأن نهم إنفاق أصحاب الثروة على الكماليات والخدمات يساعد على خلق فرص العمل وزيادة التشغيل وتحفيز الإنتاج. وعليه قدم ماندفيل نصيحة لصناع السياسات الذين يريدون رفع الناتج المحلي الإجمالي بأن عليهم تشجيع الأثرياء على خفض معدل الادخار وزيادة الاستهلاك. انشغل المتابعون طوال الأسبوع بتكلفة حفل عيد ميلاد الإعلامية لميس الحديدي الذي أقامه لها زوجها بعد شفائه. ونشرت مواقع الأخبار قيمة التكلفة بالملايين، أظنه رقما مبالغا فيه، لكن غالبية القراء انزعجوا وشعروا بالحزن والحسرة، خاصة في ظل الظروف الاقتصادية الصعبة. مبدئيا، أكره التدخل في شئون الآخرين وتتبع أخبارهم وتحركاتهم وأدعو إلى وقفة مع النفس قبل أن يصبح التدخل في الشئون الخاصة للآخرين ظاهرة مرضية شائعة، أول من يدفع ثمنها المتابع نفسه. ولا مجال للحديث الآن عن (من أين لها هذا؟) فذاك شأنها وشأن جهات رقابية بعينها. إنما أتناول هنا جانبا محددا وهو (ما أهمية إنفاق المال؟).
أغلب الظن أن نقد الأثرياء واتهامهم بالسفه والتبذير بشكل كثيف ومبالغ فيه سيدفعهم إلى أحد الأمرين: إما الكف عن إقامة الحفلات واكتناز الأموال فيُحرم من تحصيلها آخرون مثل أصحاب القاعات والعاملين وكل مقدمي الخدمات المعاونة لإقامة الحفل كالطباخين والمصورين والسائقين وبائعي الملابس والهدايا.. إلخ. والأمر الثاني، قد يضطر هؤلاء الأثرياء إلى السفر إلى الخارج للتنزه وإقامة حفلات أعياد الميلاد أو الزواج هربا من أعين ترصدهم وألسنة تحسدهم. أي في الحالتين ستُحرم فئات عدة من أبناء الوطن -وقد يكون جارك وقريبك المحتاج- من مصدر دخل نتيجة عدم تداول الأموال في دورة اقتصادية كاملة داخل المجتمع. دينيًّا، يقول الله تعالى: "وأنفقوا مما رزقناكم" سواء كان ذلك الإنفاق صدقة أو زكاة أو استهلاكا، فالله سبحانه وتعالى، ينهى عن البخل والاكتناز لما في تداول الأموال من منفعة مادية ونفسية تعم على جميع أفراد المجتمع. وعلميا، يعرف أهل العلم ودارسو الاقتصاد تحديدا أن إنفاق الأموال، بما يعنيه من إعادة توزيع للدخول من المقتدرين إلى المحتاجين، هو محرك للتنمية وفيه إنعاش للطلب الاستهلاكي والعرض. وله أثر على نمط الاستهلاك الكلي، كما أن له بُعدا اجتماعيا، إذ يحفظ المجتمعات من آثار البطالة والفقر حين يوفر فرص عمل حتى وإن كانت موسمية. ببساطة أرى أن انتقال الأموال من الأثرياء للأقل مالا في دورة مستمرة أمر يخدم المصلحة العامة ويجلب المنفعة للجميع، ويستدعي منّا أن نشجع الإنفاق ونخفف من حدة الانتقاد الذي يصل إلى السباب والتجريح. ولتُقِمْ لميس وأصدقاؤها ما يحلو لهم من حفلات، وإن تيسر لهم ذلك شهريا فليفعلوا ما دام الخير يعم على الجميع. غير أن من واجبي أن أذكر أيضا أن على هؤلاء المنفقين الاحتكام إلى المنطق والعقل والأصول عند التصرف، فلا إسراف فيما يضر، ولا استهلاك لسلع استفزازية تحمل الموازنة العامة أعباء، ولا تقتير على المحتاج وذوي الحقوق. إذ لا يجب إطلاقا وحرام شرعا، تحميل العامة تكاليف أمزجة الخاصة أو من يُلقبون بالصفوة وشكرًا!