المساء
محمد جبريل
نظرية التماثيل المكسورة
من أسوأ ما ورثنا عن منافرات الجاهلية. لغة التقابل. أو التضاد. التي تلجأ إلي فعل "أفعل" في التفضيل وعكسه.
بعد رحيل عبدالناصر. كتب توفيق الحكيم في الصفحة الأولي بالأهرام. يدعو إلي تخليد ذكراه بوضع تمثال له علي قاعدة ميدان التحرير. وخرج الحكيم عن مألوف ما نسبه إلي نفسه من البخل. فأعلن تبرعه ـ لصالح الفكرة ـ بجنيه. هو البداية لتبرعات المواطنين.
لما تبدلت الأحوال السياسية. فاجأنا الحكيم بكتاب سماه "عودة الوعي" نسب فيه إلي عبدالناصر من السلبيات ما يجعل الدعوة إلي تخليده ـ إلا بالمعني المغاير ـ مجرد تعبير عن انفعال وقتي.
قامت الدنيا ولم تقعد فور أن أعلن الحكيم عودة وعيه. ناصرته كتابات. واعترضت كتابات أخري وصلت بسلسلة عدو المرأة وحمار الحكيم وصينية البطاطس. وغيرها من محاولات لفت الانتباه.
والحق أن الرجل لم يتفرد بدعوته. ثم بالحديث عما يناقضها. فمن أخص مشاعرنا أنها لا تثبت علي حال. ولا تناصر موقفاً محدداً. تشكله برؤية وتدبر وقناعة. الآراء تصدر في اندفاعه. وبأسلوب يغلب عليه التضاد.
قد تصدر آراؤنا عن فهم ـ نتصوره ـ للقيمة التي نعرض لها. ما أحطناه بهالة من النورانية أو القداسة. فهو الأجمل. والأعظم. والأنبل. إلي آخر المفردات. وقد تتبدل الآراء. وتتبدل الصفات بالتالي. نتيجة قناعات جديدة ربما كانت مجهولة.
أخطر الآراء ما ينطلق من رغبة في لفت الأنظار. الكلمات والتصرفات بلا معني. عدا روح الطفولة التي تتقمصنا ـ أحياناً ـ فنقدم علي ما يحاول الطفل من خلاله أن يجتذب اهتمام الآخرين. حتي لو كانت الكلمات معيبة. ولو كان التصرف ساذجاً. بل إن النتائج قد تكون كارثية. تسيء إلي ثوابت وقيم لمجرد الرغبة في تأكيد الذات.
أذكر مقالة للصديق الراحل الناقد الكبير رجاء النقاش. يعرض فيها لحب التماثيل المكسورة الذي يفرض علي البعض أقواله وتصرفاته. يؤلمه أن يكون تمثال "أفروديت" مكتملاً. فهو يصر أن يكون مبتور الذراعين. ذلك الكسر. النقص. هو ما يستريح إليه. حين يجد التمثال في ذلك النقصان. انعكاساً للسعادة التي تتجاهل ما خلفته الشخصية التاريخية من تأثير إيجابي وإضافة إلي حياتنا. وتنسب إليه ما تغيب عنه الحقيقة. أو ينسجه الاختلاق.
مجاوزة روح الطفولة تفرض ضرورة التثبت من المعلومة غير المؤكدة. نلجأ إلي التعليل والاحتمال. ولا نقذف المجتمع الذي ننتسب إليه. بعبارات من نوع "أحقر" وأسفل" و"أحط". نشير إلي شخصيات مهمة في حياتنا. نتناسي أن الإصبع الواحدة تتجه إلي من تعنيه الكلمة. بينما تتجه الإصبع الأربعة الأخري إلي من نطق الإساءة!
تعليقات
اقرأ ايضا
الصحف