بوابة الشروق
جمال قطب
الرؤية القرآنية للكون وسكانه -13- القيم والخير والأمانة
ـ1ــ
الخير المطلق أحد القيم الكبرى التى يتبناها المسلم ويلتزم بها فى كل تصرفاته عبادة لله وطاعة الله. وبلغ تمسك الشرع بالخير أن فرض على الأمة إنشاء مؤسسة عامة ترعى قيم الخير برافديه الكبيرين وهما إشاعة المعروف والأمر به، وتبشيع المنكر والنهى. نعم مؤسسة عليا كبرى متخصصة تقوم على الخير حيث قال تعالى: ((ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ۚ وأولٰئك هم المفلحون)). والخير ليس مصطلحًا غامضًا أو مبهمًا، بل هو مصطلح واضح تمام الوضوح، فالخير هو إيجاد كل ما له ضرورة أو حاجة دون أدنى ظلم أو إجحاف بأى مستوى من حقوق العباد فى عيشة كريمة وأمن وأمان. وجميع البشر ــ إذا أرادوا ــ يستطيعون التعرف على الخير بالمقارنة إلى نقيضه وهو الشر، فالشر هو كل نقص أو عدوان أو إكراه، والشر هو عدم الإحساس بالمسئولية وتحمل أعبائها. ولشديد الأسف فقد خلت حضارتنا المعاصرة خلوًا فاحشًا من الاهتمام بالخير والسعى إليه والحض عليه والمشاركة فيه، بل ربما تواصى الإعلام السيئ بتهميش الخير وصرف الناس بعيدًا عنه. ولله الأمر من قبل ومن بعد.
ــ2ــ
أما الأمانة فالواقع المعاش يؤكد غيابها، أو على الأصح يؤكد هجرتها من بلادنا إلى بلاد وحضارات أخرى حيث تراها رؤية العين قد اتخذت إقامة دائمة مطمئنة فى البلاد الأخرى. والأمانة كقيمة كبرى من قيم الإسلام لا تعنى مجرد حفظ الودائع وردها عند الطلب. بل إن الأمانة سلوك عام وشامل. أما عموم الأمانة فإنها قيمة دائمة لا تغيب بين جميع شرائح المجتمع (الصغار/ الكبارــ الأغنياء/الفقراء ــ العلماء/المتعلمين ــ الساسة/الأجهزة) كما تعم الأمانة (المواطنين ــ المقيمين ــ المهاجرين) كما تعم جميع التوجهات السياسية والاجتماعية إلخ فالأمانة ليست خاصة بقوم دون آخرين ولا يحل للمسلم أن يتعامل مع أى بشر بل أى مخلوق دون أمانة مطلقة. ومعيار تلك الأمانة أن يضع المتصرف نفسه موضع الآخر ويفعل معه ما يجب أن يحدث معه، ويكفيك فى هذا قول الرسول صلى الله عليه وسلم: «وأن تحب للناس ما تحبه لنفسك».
ــ3ــ
أما شمول الأمانة فذلك محور آخر، وهو محور المجالات والأنشطة. فالأمانة ليست قيمة اقتصادية (الكم/ الكيف) فحسب، بل إن الأمانة قيمة سلوكية تبدأ بأمانة الإنسان على نفسه: فلا يجلب عليها عيوب الإهمال والتقصير فيكون قد خان نفسه. ثم أمانة الإنسان عن تفكيره وتدبيره: فلا يملأ ذهنه بالشرور والتدبير السيئ والعدوان وحب الانتقام.. وإذا ضبط نفسه متورطًا بمثل هذه الشرور فليسارع بالتوبة والاستغفار والتراجع، وثالث الأمانات مسئوليته عن عينه وأذنه: فلا يختلس النظر إلى ما لا يحل له، ولا إلى ما لا يحب الناس أن يظهر من شئونهم فيقول تعالى: ((يعلم خائنة الأعين وما تخفى الصدور)). وكذلك حاسة السمع فلا يستمع الإنسان ولا يسترق السمع، فالقرآن الكريم يحذر تحذيرًا شديدًا من خيانة الحواس حيث يقول: ((إن السمع والبصر والفؤاد كل أولئك كان عنه مسئولا)). والإنسان المسلم مؤتمن على جميع المرافق العامة وهو مسئول عن نظافتها وسلامتها وصيانتها مثل مسئوليته عن سكنه الخاص. كما إن الإسلام بعد أن حمل المسلم أمانة المرافق العامة أضاف إليها أن المتطوع لإصلاح ما أهمله الآخرون قد وعده رسول الله بالثواب حيث قال: «إماطة الأذى عن الطريق صدقة».
ــ4ــ
وأمانة الأمانات والأمانة الكبرى تلك هى مسئولية الأوطان وسكانها (ليس مجرد المواطنين بل جميع المقيمين عليها)، فالوطن وسكانه أمانة مغلظة فى رقاب كل من تصدى للعمل العام وتحمل شريحة من شرائحه، فإذا لم يكن المسئول فى اختصاصه يحمل هموم جميع السكان كما يحمل هم نفسه فقد خان الأمانة وأرهق نفسه فى الدنيا والآخرة، ولعلك قد سمعت أن صحابيًا سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الساعة أى موعد انتهاء الدنيا، فإذا برسول الله صلى الله عليه وسلم يعلمه ويعلمنا جميعًا أنه لكل إنسان ساعة (آجله) ولكل دولة ساعة ولكل نظام حكم ساعة ولكل حضارة ساعة وذلك كله قبل الساعة الأخيرة (القيامة الكبرى) وجاء رد الرسول صلى الله عليه وسلم على الرجل قائلا له: «إذا ضيعت الأمانة فانتظر الساعة»، قال السائل: كيف إضاعتها يا رسول الله؟ قال: «إذا أسند الأمر إلى غير أهله فانتظر الساعة» ونرى الرجل يتولى أعمالًا لا يحسنها وهناك غيره أولى وأنفع منه، ونرى ذلك فى كل المهن والمجالات والمؤسسات. ولله الأمر من قبل ومن بعد.
تعليقات
اقرأ ايضا
الصحف