د . رفعت السعيد
تحية وداع لإسماعيل سراج الدين
وهكذا وبعد مسيرة صاخبة وجميلة ومحملة بالجهد والفكر والعقل والمعرفة استمرت منذ تفتحت أنفاس مكتبة الإسكندرية وامتدت عبر خمسة عشر عاماً تكون تحية الوداع.
هو يودعنا بكتاب ممتع ومبهر «الثقافة ومواجهة الإرهاب ـ رؤية ثقافية لمجابهة العنف والتطرف الديني» فهل يأذن لنا أن نحييه نحن بمطالعة كتابه؟ وابتداء أقر بأن استعراض كتاب لإسماعيل سراج الدين أمر صعب جداً إن لم يكن مستحيلا فالكلمات لم تأت عفوا بل وضعت إلى جوار بعضها البعض بإتقان يشبه قطع المشربيات التى تطل منها على ما يريد أن يقول ، وكل قطعة فى مكانها تماما ولا يمكن اقتطاعها ولا استبدالها ولا اختصارها. ولهذا سأحاول عزيزى القارئ قدر استطاعتى أن اختار لك مقاطع متماسكة مما كتب ونقرأ. «كيف يمكننا تحدى التيارات المتطرفة بيننا، كيف نتحداها فكرياً، وكيف يمكننا استعادة تراثنا الثقافى من براثن أولئك الذين يسعون لاستغلاله ويحاولون تسخيره لأغراضهم السياسية؟ ويجيب سراج الدين» ينبغى علينا أن نراجع الطريقة التى ننظر بها إلى ثقافتنا وتراثنا والأدوات التى نستخدمها لنشر تلك الثقافة. هذا هو السؤال الافتتاحى [صـ3] ونتابع الإجابات.. يعانى العالم العربى ظروفاً سياسية يصعب تخيل الأسوأ منها، من الانعزال الثقافى، إلى الدول الفاشلة، إلى الحروب الأهلية ووصولاً إلى الأشكال الجديدة من الهمجية.. ثم يعاود سراج الدين تأنيبنا فيسأل «هل من الإنصاف أن نشير إلى عالم عربى واحد؟ أم أن لدى كل دولة تاريخها المنفرد الذى أدى إلى تدهورها [صـ6] وهو إذ يتحدث عن الهوية العربية وتمايزاتها فإنه يطبق ذلك على قضية المرأة «فلا ينبغى أن نساند مزاعم الخصوصية الثقافية التى تهدر الحقوق الإنسانية الأساسية للمرأة وتبتر إمكانياتها باسم التقاليد ولا ينبغى أن يفعل ذلك الذين يفخرون مثلى بهويتهم العربية الإسلامية ولا يودون رؤية جوهر تراثهم وهو يهان بسبب تلك المزاعم. فالمجتمعات لا تحرز النجاح بدون مجهودات ضخمة لتمكين نسائها، بتعليمهن ووضع حد للتمييز ضدهن» . ثم يقول وحتى الدول التى لم تقع فريسة للمتعصبين الإسلاميين المسلحين فإن معظمها يميل إلى تفسير تراثها بشكل محافظ ومعاد للنساء .. ويظل تمكين المرأة فى مجتمعاتنا العربية ذات الأغلبية المسلمة حجر الزاوية فى عملية الإصلاح المجدى والاختبار الحقيقى للتقدم الفعلى. [صـ11].. ثم يسأل سراج الدين عن أسباب ظهور الأشكال الأكثر تطرفا من الإرهاب الهمجى ويجيب 1- الإفلاس الفكرى للعديد من الأنظمة العربية التى عجزت عن تجديد العقد الاجتماعى بشكل حقيقى ، والاحتكار المستمر للسلطة من قبل نخبة متواضعة الفكر ، وبحث مواهب الشباب، وفرضت هيمنة على الترقى السياسي. 2- عودة ظهور الإسلام السياسى بعد أن جرى قمعه عبر الخطاب السياسى القومى والعلمانى ولكنه اكتسب زخما جديدا عبر الثورة الإيرانية والتمويل من جانب بعض الدول النفطية وأثرياء العرب وظهور حزب الله ودوره فى المقاومة. واعتلاء طالبان سدة الحكم فى أفغانستان. 3-الغزو الأمريكى للعراق [2003] وفشل إدارة الانقسامات العرقية والدينية هناك. 4- استمرار الاحتلال الإسرائيلى للأراضى الفلسطينية وإضعف القيادة الفلسطينية وظهور حماس فى غزة . 5- ظهور بيروقراطية استبدادية قوية خاصة فى مصر وقيامها بخنق وإثارة حنق كل من تعامل معها .
ثم يقول ومن ثم فإن بزوغ التعصب والتطرف يمثل نبذا لواقع متشابك . وهو محاولة لرفض المساواة فى النوع والديانة ، والسعى لفرض الإرادة بالقوة . ويستمد هذا التعصب قوته من الحمية الدينية ومن الحميات المجروحة لشعوب تشعر بالظلم مثل العرب السنة فى العراق فى العقد الأخير [صـ13] ثم يقتادنا سراج الدين إلى استعراض بانورامى للمشهد الثقافى وهو استعراض مبهر للفن والأدب والقصة والشعر والموسيقى والرواية والرسم والنحت والغناء والسينما والمسرح والنقد يتميز ليس فقط بسعة اطلاع على تاريخ كل فن وإبراز ما أنتج وأسباب نهوضه وازدهاره وخفوتة.. ثم يقول وما الثقافة كلها إلا تراكمات تعود إلى التقاليد القديمة، حيث تستغل الأعمال الخلاقة الجديدة ، الماضى لكى تبدع الجديد عبر مزجه مع الأفكار الوافدة والإبداع المحليس . وبعد ذلك يقول «هذه النظرة السريعة [استغرقت 25 صفحة] توضح نمواً قوياً فى العديد من الصناعات الثقافية تسارع بفضل جيل شاب من الفنانين خاصة عقب الربيع العربي، لكن هذا النمو يتوازى مع تنامى التعصب الذى تظهره الأنظمة الشمولية وتصاعد التشدد واستخدام السلاح لفرض أشكال متطرفة من الإسلام السياسى تخطى بعضها حدود السلوك الإنسانى المتحضر.. ولم يعد يتبقى سوى جزر متفرقة من الانفتاح منثورة فى العالم العربى من المحيط إلى الخليج.. وهو يقدم تقييما صارما للمنتج الثقافى» فهو على كثرته متواضع فى أغلبه وسريعا جدا يلمح إلى أن دولا كفرنسا وهى لا تقارن مساحة ولا حتى ثروة بالعالم العربى تطبع وتوزع كتباً بنسب تعتبر فلكية بالنسبة لنا.. ويقول «أن وظيفة الفن الحقيقية تكمن فى قدرته على الحلم ضد العالم وتشييد عوالم مختلفة».. وتتملكنى حيرة فقد تبقى الكثير جدا.. ولا حيلة أمامى سوى أن اكتفى بقوله «قبل نصف قرن كتبت بحثا فى جامعة هارفارد حول» لماذا لا توجد طوبائيات إسلامية؟. ويجيب سراج الدين ووصلت إلى نتيجة لم أزل مقتنعا بها ومفادها أن معظم المفكرين المسلمين يعتقدون بأن أفضل العوالم إطلاقا قد جاء ومضى منذ زمن سحيق وهو متمثل فى قيادة الرسول «صلى الله عليه وسلم» بالأمة فى المدينة وربما امتد إلى الخلفاء الأربعة. والآن يا مفكرنا الكبير ويا صديقى العزيز هل تأذن لى بأن أشكرك ثلاث مرات، الأولى لقيادتك الحكيمة والمفعمة بالنشاط والتوهج الذكى لمكتبة الإسكندرية التى صنعتها فأحسنت، والثانية لكتابك الأخير الذى كان خير تحية وداع لنا ، والثالثة لأنك استخلفت المفكر اللماح والذكى والمثقف والواعى د.مصطفى الفقى. ويا دكتور إسماعيل سراج الدين ابق إلى جوارنا لا تغادرنا فنحن لم نزل بحاجة إلى وعيك وفكرك فلا تتباعد بل اقترب فأحضاننا تنتظرك .
وختاما أرجو أن تأذن لى بأن أعود مع القارئ .. إلى كتابك مرة أخرى .