نيفين مسعد
الجامعة ودورها فى التنوير
لو أن الدكتور جابر جاد نصار كان قد ترشح لفترة ثانية كرئيس لجامعة القاهرة ما كان لهذا المقال أن يرى النور لربما أُخِذ مقالى على محمل الدعاية الانتخابية له وأنا فى كلية تتبع جامعته ، أما و قد أحجم الرجل عن الترشح مجددا بعكس ما كان يتمنى كثيرون - وأنا منهم- فقد زال عنى الحرج . وعند تقييم تجربة الدكتور نصار فى جامعة القاهرة ليس من الدقة ولا من الإنصاف التعامل مع قراراته بشكل منفصل أو التوقف عند تصريح له هنا أو هناك، فالرجل صاحب رؤية متكاملة لتحويل الجامعة إلى مؤسسة حاضنة للفكر التنويرى ومكافحة التطرف ، وكل تغيير يبدأ من الرؤية .
ترأس الدكتور نصار جامعة القاهرة بعد مرور شهر على 30 يونيو 2013، وتلك فترة كانت بالغة الحساسية خططت فيها جماعة الإخوان لتحويل الجامعات إلى ساحات حرب حقيقية ، وهكذا شاهدنا بأعيننا ما لم نره على مدى نحو أربعين عاما من عملنا الأكاديمى : القنابل مزروعة وسط الأشجار، المظاهرات بالشماريخ تجوب الحرم الجامعى، اقتحام المدرجات والوقف الإجبارى للتدريس، باختصار كانت العملية التعليمية مستحيلة فالأستاذ يحاضر بنصف تركيز، والطلاب المنتظمون يتعرضون للابتزاز النفسى والاتهام بعدم «الثورية»، والموظفون ينصرفون مبكرا تحسبًا لتطورات مفاجئة، و فى هذه الظروف عمل رئيس الجامعة الجديد، لا بل أطلق مشروعه الفكرى التنويرى .
ارتكز مشروع دكتور نصار على تكوين الشخصية السوية للطالب من خلال روافع ثلاث أساسية: الثقافة والفن والتعليم ، وما كان هذا ليتحقق إلا باسترداد الجامعة دورهاالتنويرى المختلف عن دورها فى تخريج حملة الشهادات العليا، فكثير من رموز التطرف يحملون شهادات فى الطب والهندسة. ومن هنا حوّل الدكتور نصار الجامعة إلى خلية نحل تزخر بكل أنواع الأنشطة الثقافية ، محاضرات دورية لمفكرين ينتمون لتيارات مختلفة، معارض دائمة وأخرى دورية لكتب عربية ومترجمة ، مسابقة فى القراءة النقدية لمؤلفات موضع جدل. هذه الرافعة الثقافية الأولى لها أهمية بالغة لأنها عرضت على الطلاب أفكارا تعد من المحظورات، فمن كان يتصور أن يتحاور الطلاب فى أيامنا هذه مع الدكتور مراد وهبة حول العلمانية فيأخذوا منه ويردوا عليه؟، ومن كان يتصور أن يراجع الطلاب كتاب «الإسلام وأصول الحكم» للشيخ على عبد الرازق فيتفقون معه ويختلفون؟. كان الهدف هو تحصين الطلاب ضد عقلية السمع والطاعة التى تشتغل عليها جماعات التطرف، ودحض الوهم الشائع عن أن تلك الجماعات تحتكر وحدها الحقيقة ، ولذلك فبين الكتب التى وُزِعت على الطلاب كتب ألفها العلامة حسين أحمد أمين والدكتور سعد الدين الهلالى والدكتور ثروت الخرباوى والشيخ أسامة الأزهري. وعندما سألت الدكتور نصار كيف يمكن أن تستمر هذه النوافذ مفتوحة بعدما يغادر مكتبه تحت القبة رد بأنه حول القراءة إلى مؤسسة تحمل اسم «اقرأ» لها مجلس أمنائها وتنتج نشاطين كبيرين: تنظيم مسابقة دورية فى القراءة النقدية لأمهات الكتب بين الطلاب، والإشراف على «دوار للقراءة» مهمته تشجيع الطلاب على التعاطى مع الثقافة بمعناها الواسع .
وكان الفن فى مشروع دكتور نصار هو الرافعة الثانية للتنوير فبين الفن والتطرف علاقة تنافٍ وعداء، وهكذا أقيمت حفلات لقامات محترمة فى الغناء والإنشاد الدينى والموسيقى والفن الشعبى والمسرحي. اصطف الطلاب بالآلاف ليستمعوا إلى موسيقى عمر خيرت وسليم سحاب وليتفاعلوا مع أغانى محمد منير وهانى شاكر وعزة بلبع وليتابعوا السيرة الهلالية و فن الواحات وهلم جرا . وحيثما كان يتعذر على الفرق المسرحية عرض أعمالها فى الجامعة كانت أتوبيسات خاصة تنقل الطلاب لدور العرض فى حفلات خاصة بهم . وحين اشتكت بعض الطالبات من عدم قدرتهن على حضور المسرحيات التى تبدأ فى السابعة مساء تفاهم رئيس الجامعة مع الفنان القدير يحيى الفخرانى فقبل مشكورا عرض مسرحيته «ليلة من ألف ليلة» فى الخامسة مساء. اقترب الطلاب من شخصيتى جلال الدين الرومى وشمس الدين التبريزى فى مسرحية «قواعد العشق الأربعون» واستمعوا فيها للغناء الصوفى الراقى وانفتحت أمامهم آفاق جديدة . أصدر رئيس الجامعة قرارا بأن يكون فى كل كلية مسرح وفريق مسرحى وآخر الكورال ، وطبع العمل الأول للطلاب أصحاب المواهب فى الشعر والأدب .
أما الرافعة الثالثة وهى التعليم فأقف فيها عند الجانب المتعلق بجعل تدريس القيم الإنسانية المشتركة متطلبا أساسيا مقررا على جميع طلاب جامعة القاهرة فى كل التخصصات، فهذه المشتركات هى التى تصنع الوشائج وتهدم الأسوار وتقيم الحوار بين الشعوب والأمم وقد خلقها الله لتتعارف . هكذا نُظمت مسابقة لتأليف كتاب عن «الأخلاق والقيم الإنسانية المشتركة بين الشعوب» بين كليات جامعة القاهرة، وأُدمجت فيه قيم المواطنة واحترام التنوع والتسامح والسلام ، وكوفئ الفائزون مكافأة مالية مجزية.
سوف يغادر الدكتور نصار مكتبه فى أول أغسطس القادم تاركا خلفه تجربة فى التنوير ما كانت تنجح لولا أن توافر لها فهم صحيح لدور الجامعة وشجاعة فى المبادرة وصبر كثير على الأذي. وكم كنت أتمنى لو أن الكاتب الكبير داود الشريان اطلع على هذه التجربة الرائدة قبل أن يكتب مقاله بجريدة الحياة يوم الأربعاء الماضى بعنوان «حين تصبح الصلاة تهمة .. انتظروا التطرف»، فلا الرجل منع الصلاة كما فعل زين العابدين بن على ولا هو حظر النقاب فى غير التدريس والعلاج ولا هذه البيئة الجامعية المنفتحة تنتج التطرف بل العكس هو الصحيح. ولعل الدكتور نصار يوجه دعوة للكاتب لزيارة جامعة القاهرة والصلاة فى المسجد الخاص بالرجال ومشاهدة واقع الجامعة بنفسه كما هو.
دكتور جابر جاد نصار لا نقول لك وداعا لأنك قادر على مواصلة مشروعك التنويرى من موقعك كأستاذ جامعي، لكن نقول لك شكرا لأنك أعدت لجامعتنا الأعرق وجهها المشرق . كلنا أمل أن تتواصل المسيرة نفسها فى ظل قيادة الجامعة الجديدة ، أما أملنا الأكبر فهو أن تسرى روح جامعة القاهرة فى كل جامعات مصر ومعاهدها.