لا أريد لمبارك أن يفلت بفعلته. الرجل حكم مصر ما يقرب من الثلاثين سنة وهو (وعائلته) سبب أساس لكل ما تمر به مصر الأن من أزمات. لا يوجد بمصر إقتصاد حقيقي وقوي يمكن أن يقاوم فترات الركود ولم تحقق مصر لنفسها أي إكتفاء أو شبه إكتفاء في أي شئ وهي كارثة بكل المقاييس. يصرح الرئيس الحالي أحيانا بما يوحي بأنه ورث مصيبة ويميل بطبيعته للإعتماد على الاجهزة التي يعتقد في إنضباطها وجديتها ومساندتها له، ولذا لا يستطيع التصريح بحقيقة ما تواجهه الدولة التي يرأسها لأنه بهذا سَيُدين أجهزة عدة كان من واجبها تصحيح الوضع وإيضاح الصورة ثم وتسجيل الإعتراض (كأضعف الإيمان) على السياسات الخاطئة التي تمت في عهد آل مبارك.
كتبت من قبل كثيراً في "المصريون الغراء" كيف أن إقتصاد دولة كمصر لا يجب أن تكون السياحة مصدراً أساسا لدخله وكيف أن معظم الإقتصاد الخدمي لا يليق بدولة كمصر. هو مهم ولكن لا يجب أن يتم الإعتماد عليه خاصة ونحن في منطقة نعرف تماما ما تمر به. كما أن الدروس المستفادة من حقبة التسعينات في القرن الماضي أيام التفجيرات الإرهابية وإستهداف السائحين تؤكد ما ذهبت إليه. ايعقل أن يكون إقتصاد بلد كمصر مرهونا برصاصة يطلقها إرهابي!؟ ثم كيف لدولة كمصر أن لا تمتلك صناعة أو تكنولوجيا خاصة بها يحتجها العالم وتنتجها هي!؟ هذا هو أساس الإقتصاد الناجح من وجهة نظري المتواضعة. كيف وخلال سنوات مبارك في السلطة سمحنا له بأن نترك ملعبنا ا?فريقي فارغا من أي تأثير لنا حتى تردى الحال لما مصر عليه، وكيف سمحت كل الأجهزة الرقابية بإستشراء الفساد إلى الدرجة التي أصبح فيها على ما نرى ونعرف؟ نعم هي إدانة لنظام كامل جثم على صدورنا ثلاثين سنة دمر فيها كل ما كانت تمتلكه مصر من منظومات أخلاقية وإقتصادية ومجتمعية حمتها وحافظت عليها ولم يقم بأي محاولة تذكر لتدارك التعليم وسقوطه المريع على يد وزراء من مثل فتحي سرور وحسين كامل بهاء الذين ثم من خلفوهما. لقد تحدثت من قبل عن التعليم وأهميته وكيف أن كل وزير جديد يأتي يضع همه في محاربة الثانوية العامة ويترك المرحلة ا?ساسية دون أي إهتمام حتى صدق ظني ورأينا وزير التعليم الحالي والنظم التي يريد بها "تطوير" الثانوية العامة، ولن أزيد هنا كثيرا فلا حاجة للتكرار.
تجابه مصر الآن تحديات من داخلها أكثر بكثير مما يمكن أن يكون من خارجها، فالتحدي الداخلي هي تحدٍ إداري بالأساس. تحد يشمل التخطيط والتنفيذ والمتابعة بما يبعد شبهات الفساد والتواكل والفهلوة التي أضاعت منا الكثير من الوقت والأجيال غير أن المتابعة الدقيقة لطريقة تسيير الأمور تعود بصانع القرار لنفس نسق التفكير القديم في إجباره على القبول بمجرد محاولة تسيير السفينة (يعدي اليوم!) ونحن نعلم أنه لو كان هذا هو أقصى الطموح فلابد وأن المُتَحَقَق سيكون أقل بكثير.
يطالب الرئيس الحالي عبد الفتاح السيسي الناس بالصبر، فمرة يطلب إنتظار عامين ثم مرة يطلب مهلة ستة أشهر ثم يقسم أخيرا باننا سنشهد المعجزات لو صبرنا (ولم يحدد مدة هذه المرة) ولم نسمع منه كلمة واحدة تطفئ لهيب الغضب والظمأ عن خططه التي لا تحتاج إلى تمويل في مجالات أساسية لأي نهوض مجتمعي وهي مجالات الحقوق والحريات. هل يرضى الرئيس بالسمعة الحالية لمصر في مجال حقوق الإنسان؟ وهل يرضى بحالات الإخفاء القسري التي نسمع عنها كل يوم؟ وهل ترضيه سمعة أجهزتنا الامنية المتهمة بقتل الباحث الإيطالي جوليو ريجيني؟ وكيف لم يغضب أو يعبر عن إمتعاض حتى من الأهوال التي نسمعها ونقرأها على صفحات الصحف المصرية عن حالات القتل في أقسام الشرطة؟ ثم وهل يرضى في النهاية أن يكون رئيسا لشعب من (الرعاع) كما وصفنا عميد سابق بالجيش الذي من المفترض أنه مصري ومكون من مصريين خالصين؟
مهما كانت التحديات ومهما كانت الصعوبات فمن المستحيل ألا يوجد رجال مُخلَّصين من بين مائة مليون شخص يمكنهم حل الأزمات وتجاوز الصعوبات غير أن محاولة إيجاد توازن بين المحافظة على مكتسبات تاريخية لبعض ا?جهزة والمؤسسات من ناحية ومحاولة حل مشكلات الدولة من جهة أخرى بائت كلها بالفشل كما رأينا خلال الثلاثين سنة من حكم آل مبارك.
الضغوط الحقيقية التي تتعرض لها مصر هي ضغوط نفعية خاصة بطبقات معينة تتصارع على ما تبقى من فتات ونرى اليوم كيف تحاول طبقة إزاحة أخرى عن طريق سن قوانين تفقدها إستقلالها لِتُنزلها درجة للأسفل حيث لم يعد الفتات يكفي الجميع.
المشكلة في نظري هي عدم وجودة إرادة خالصة مخلصة لحل ا?زمات دون الإعتداد بأصحاب المصالح وشركاء الحكم.
د. حاتم حجاب